ومع أنّها محكمة صريحة إلا أنّها ظنّيّة الدّلالة؛ إذ يدخل إليها الاحتمال من وجوه؛ أهمّها: الأوّل: معنى الحكم هنا. وفيه خلاف، والثّاني: معنى الكفر والفسق والظّلم. وفيها أيضاً خلاف، والثّالث: في المعنيين بها. وهو أيضاً ما اختلف فيه الفقهاء والمفسّرون في القديم والحديث.
"وهذه الآيات –وإن نزلت في شأن أهل الكتاب– جاءت بلفظ عامّ يشملهم، ويشمل المسلمين معهم، والعبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب؛ كما هو معلوم.
ولا يتصوّر أن يحكم الله بالكفر أو الظّلم أو الفسق على من لم يحكم بما أنزله من اليهود والنّصارى، ويعفي من ذلك المسلمين، فعدل الله واحد، وليس ما أنزل على محمّد - r-، دون ما أنزله على موسى وعيسى –عليهما الصّلاة والسّلام-" ([1] ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=23012#_ftn1)).
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة –رحمه الله-: "ومن لم يحكم بما أنزل الله، أو تحاكم إلى غير شريعته فهو كافر ليس في قلبه ذرّة من الإسلام، وإن تسمّى باسم مسلم، وانتسب إلى أبوين مسلمين، وادّعى لنفسه الإسلام؛ ذلك حكم الله جلّ شأنه:? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ.
وإذا كان هذا هو حكم الإسلام الّذي عطّلته ولا تزال تعطّله الحكومات في البلاد الإسلاميّة؛ فإنّ كلّ ذي عقل يستطيع أن يدرك بسهولة مدى حظّ هذه الحكومات من الإسلام، وأن يقول غير متحرّج أنّ هذه الحكومات تدعو المسلمين إلى الكفر، وتحملهم عليه" ([2] ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=23012#_ftn2)).
و " أعتقد أنّه لا يمنع عالم من العلماء من وصف من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر؛ لأنّه وصفه بما وصفه الله تعالى به في كتابه المبين، كما وصفه بالظّلم والفسق، فمن وقف عند نصِّ القرآن ولفظه لا يتّهم بالخطأ أو الزّيغ، كلّ ما عليه أن يفسّر الكفر بما فسّره به ابن عبّاس وغيره. بأنّه ليس الكفر المخرج من الملّة، وأنّه كفر دون كفر، وأن يفرّق بين الجاحد والمقرّ، كما فرّق ترجمان القرآن ومحقّقو علماء الأمّة" ([3] ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=23012#_ftn3)).
و "من الممتنع أن يسمّي الله –سبحانه– الحاكم بغير ما أنزل الله، كافراً، ولا يكون كافراً؛ بل هو كافر مطلقاً، إمّا كفر عمل، وإمّا كفر اعتقاد" ([4] ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=23012#_ftn4)).
وهذان النّصان الأخيران يخفّفان حدّة سابقيهما عند عودة وقطب-رحمهما الله تعالى-، فكأنّهما يريدان أن يثبتا صحّة إطلاق الكافر الفاسق الظّالم على من لم يحكم بما أنزل الله، مع ترك الباب بعد ذلك مفتوحاً لتحديد المراد بالكفر؛ لأنّه محلّ نظر واجتهاد وخلاف.
أقوال المفسّرين في هذه الآيات الكريمة:
قال الإمام الرّازيّ –رحمه الله-: " واختلف المفسّرون: فمنهم من جعل هذه الثّلاثة، أعني قوله (الكافرون الظّالمون الفاسقون) صفة لموصوف واحد. قال القفّال: وليس في إفراد كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى؛ بل هو كما يقال: من أطاع الله فهو المؤمن، من أطاع الله فهو البرّ، من أطاع الله فهو المتّقي؛ لأنّ كلّ ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد.
وقال آخرون: الأوّل: في الجاحد، والثّاني والثّالث: في المُقرّ التّارك، وقال الأصمّ: الأوّل والثّاني في اليهود، والثّالث: في النّصارى" ([5] ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=23012#_ftn5)). ومنهم من قال: هي كلّها في أهل الكتاب من اليهود والنّصارى.
روى ابن جرير عن البراء بن عازب - t- عن النّبيّ - r- " في الكافرين كلّها".
عن أبي صالح: ليس في أهل الإسلام منها شيء: هي في الكفار. ونحوه ذهب الضّحّاك، وأبو حجاز، وحذيفة، وعكرمة، وقتادة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. ومنهم من قال: عنى بالكافرين: أهل الإسلام، وبالظّالمين: اليهود، وبالفاسقين: النّصارى. ذكر من قال ذلك: عامر الشّعبيّ.
وقال آخرون: بل عني بذلك: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. منهم عطاء، وطاوس "ليس بكفر ينقل عن الملّة" وابن عبّاس حين سئل عن كفر من لم يحكم بما أنزل الله: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، وهي مراد بها جميع النّاس، مسلموهم وكفارهم. منهم إبراهيم النّخعيّ "نزلت في بني إسرائيل، ورضي لكم بها".
والحسن: "نزلت في اليهود وهي علينا واجبة"، وابن مسعود عندما سأله علقمة ومسروق عن الرّشوة، فقال: من السّحت. فقالا: أفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر. ثمّ تلا هذه الآية: " ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ". والسّدي في تفسير الآية: "ومن لم يحكم بما أنزلت، فتركه عمداً، وجار وهو يعلم؛ فهو من الكافرين".
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، فأمّا الظّلم والفسق فهو للمُقرّ به. قال ابن عبّاس: "من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم فهو ظالم فاسق".
وقال الإمام الطّبريّ –رحمه الله– بعد أن نقل هذه الأقوال كلّها: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصّواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كافر أهل الكتاب؛ لأنّ ما قبلها وما بعدها من الآيات، فيهم نزلت، وهم المعنيّون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى" ([6] ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=23012#_ftn6)).
([1]) القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، مرجع سابق، ص33.
([2]) عبد القادر عودة، الإسلام وأوضاعنا القانونية، طباعة ونشر الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، الكويت، ص72.
([3]) القرضاوي، من فقه الدولة، مرجع سابق، ص116.
([4]) محمّد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، ص1.
([5]) الرّازيّ، التفسير الكبير، مرجع سابق، جـ12 ص5.
([6]) انظر: الطّبريّ، جامع البيان، مرجع سابق، جـ4 ص257، وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق،
جـ2 ص64.
¥