أولا: قال أهل التفسير أن الآية تشير إلى النفاق الذي سينجم في المستقبل بعد الهجرة (القرطبي:19\ 82) وعقب القرطبي على هذا الرأي بقوله "وعلى القول الأول (الإشارة إلى المستقبل بحدوث النفاق في المدينة) أكثر المفسرين". وأكد هذا التفسير ما ذكره الطبري (29\ 161) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أشار إلى أن عدد ملائكة النار المذكور في التوراة والإنجيل تسعة عشر، وثنى عليه بقول قتادة رحمه الله بأن القرآن يصدق الكتب التي كانت قبله التوراة والإنجيل أن عدد الملائكة تسعة عشر وقال أن أهل الكتاب حينئذ يستيقنوا حين وافق عدد خزنة النار ما في كتبهم. وهذا ما فصله ابن كثير في وجه استيقانهم فقال: "أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله" (تفسير ابن كثير:4\ 445).
ثانيا قد يشكل على البعض أن السورة مكية ويذكر فيها النفاق الذي نجم في المدينة، وقد تم توجيه ذلك من قبل المفسرين بإخبار الآية عن الغيب الذي يقع في المستقبل، وهذا من أوجه الإعجاز التي اختص بها القرآن.
ثالثا: لنا أن نتأمل البناء اللغوي للآية ومنه يتضح أنها تشير صراحة إلى المستقبل. فعلى سبيل المثال قوله تعالى "ليستيقن" فعل مضارع أصله "يقن" دخلت عليه أحرف الطلب "استـ" التي تفيد معنى الاستقبال، لأن طلب فعل الشيء يسبق وقوع الشيء، فالطلب سابق للفعل ومن ثم وقوع الفعل نتيجة للطلب يكون في الاستقبال ولذا اقترن الفعل بـ "اللام" زيادة على أحرف الطلب ليفيد بما لا يقبل الشك أن هذا إخبار بالمستقبل لا بما هو واقع الآن، فاللام تفيد السببية والسبب دائما يسبق المسبب وهذه حقيقة معنى المستقبل، فالسبب ماضي في الوقوع والمسبب بالنسبة له مستقبل.
رابعا: نفس التحليل اللغوي يقال في الفعل "ليقول" لكن لم يقترن هذا الفعل بأي أداة تفيد الاستقبال (كالسين أو سوف أو حتى أحرف الطلب) ليدل على لطيفة لغوية وواقعية، أما اللغوية فهي ما يفيده الفعل المضارع من التكرار وكأنها إشارة إلى أن هذا القول الذي يصدر عن المنافقين سيتكرر منهم والمتتبع لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد ذلك الاتجاه مسجل على المنافقين في أكثر من حادثة وهذه هي اللطيفة الواقعية. كما أن اقتران الفعل بلام السببية فيه لطيفة نسميها السبب العكسي، بمعنى أن مراد الرحمن من سياق هذا العدد في القرآن أن يستيقن الذين أوتوا الكتاب من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بما يصدق كتبهم وهذا دليل نبوته صلى الله عليه وسلم، كما أنه من الطبيعي أن يفطن الناس جميعا إلى السبب الذي من أجله أوحى الله بهذا العدد في الآية فيفهموا مراد الله تعالى منه وهو صدق نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكن النتيجة عكس ذلك وهو ازدياد أهل الكتاب كفرا وصدودا واستمراء أهل النفاق الجدال فتساءلوا متجاهلين مستهترين منكرين: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ ومثل هذا قوله تعالى عن موسى عليه السلام لما التقطه آل فرعون: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا" القصص:8. في حقيقة الآمر أن آل فرعون أخذوا موسي عليه السلام لينفعهم أو ليتخذوه ولدا (القصص:9)، لا ليكون لهم عدوا وحزنا وإلا لما أخذوه أصلا إن لم يقتلوه إن علموا أنه سيكون لهم عدوا وحزنا وسببا في غرق فرعون وجنوده وهلاك وملكه. لكن الآية تشير من طرف خفي إلى حكمة الله تعالى في تسيير الأقدار، فهو يقلبها لحكمة لا يعلمها إلا هو في علاه. ومثل هذا يقال في حق المنافقين.
خامسا: من الأمور المعجزة أيضا في الآية أنها مكية النزول وتخبر عن بالقطع عما سيحدث في المدينة بعد الهجرة من مماحكة المنافقين وتكرار هذا منهم، كان بإمكان المنافقين أن يتخلوا عن هذا الوقف عنادا لما أثبته الله في القرآن، لكن شيئا من ذلك لم يكن، مما يدل على أن الرحمن أعجزهم بما أثبته عليهم من نفاق في قلوبهم، وهذه اللطيفة أخرى مستفادة من سورة المسد (المسد:1 - 5) حيث أوعد الله أبا جهل وزوجه بالنار، وبقيت الآية تتلى على مسامع أبي جهل وزوجه لكن لم يستطع أحد منهما أن يعاند الله في وحية وحكمه.
سادسا: تحضرني هنا آية محكمة حاسمة في لفظها وحكمها، حيث يقول الرحمن: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين" الشعراء:4. وقد نثر الرحمن في القرآن بعض آياته التي أخضع لها رقاب بعض صناديد الكفر وبقيت أعناقهم خاضعة لهذه الآيات بلا قدرة منهم على معارضتها قولا أو عملا، ومنا آية المدثر:31 وسورة المسد.
والله الهادي إلى سبيل الرشاد
ـ[أبو عمرو البيراوي]ــــــــ[09 Oct 2008, 01:21 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نضيف إلى ما ذكره الأخوة:
أ. لا يوجد عند أهل الكتاب أن خزنة جهنم تسعة عشر، ومن قال بوجود ذلك فليأتنا بنص عندهم. ويبدو أن أهل التفسير قد حاروا في ذلك فركنوا إلى هذا القول الذي ليس له سند.
ب. واضح أن الآية الكريمة تتحدث عن مستقبل يتعلق بإعجاز قرآني وموقف فئات
الناس من هذا الإعجاز.
ج. من الأمور اللافتة أن آيات سورة المدثر قصيرة جدا عدا الآية 31 فهي طويلة. وقد
استفاض الأستاذ بسام جرار في الحديث حول هذه المسألة في كتابه إرهاصات الإعجاز
العددي وكتاب المقتطف الذي لم ينشر بعد خارج فلسطين.
¥