تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكَتَبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انْظُرْ مَا كانَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَاكْتُبْهُ! فإني خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ! وذَهَابَ العلماء! () ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم! ولْتُفْشُوا الْعِلْمَ ولْتَجْلِسُوا حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ! فإنَّ العِلْمَ لا يَهْلِكُ حتى يكون سِرّاً!) وهذا والله من أعظم الْحِكَمِ وأبلغها! (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!) (ق:37). ولو وضعتَ على نَاظِرَيْكَ بصيرةَ هذا الحديث النبوي الشريف لوجدت هذا شأن كثير من الزعامات الباطلة في المجال الديني، ممن تصدوا للشأن "الإصلاحي" بغير علم، إذِ الحالُ أن لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية ولا هم من أهل صناعتها، علميا وتربويا. فبادروا في ظروف الاضطراب المفهومي المعاصر والفراغ العلمي الرهيب؛ لاعتلاء منابرها بغير حق؛ فضلوا وأضلوا فعلا! حيث اختلط على الناس - بسببهم كما أشرنا - مفهومُ "الواعظ"، أو "الكاتب" في الشؤون الدينية؛ بمفهوم "العَالِم"، الذي هو مقصود النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، في سياق الوِرَاثَةِ النبوية، والذي هو المخاطَبُ الأساس بحمل رسالة التجديد في الأمة. فكان أن أدى هذا الاختلاط إلى تدبير الشأن الدعوي من قِبَلِ هؤلاء بإشاعة الخرافات والضلالات في العقائد والعبادات؛ مما أحدث فِتَناً وانحرافات شتى في مجال الدين والتدين! والله المستعان! ألا وإنَّ كُلَّ عَمَلٍ "إسلامي" لا يَتَصَدَّرُهُ الْعِلْمُ الشرعي، ولا يُؤَطِّرُهُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ فهو بَاطِلٌ بَاطِلٌ! ولن يقود إلا إلى المهالك والضلال! () والنصوص القرآنية والحديثية في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى! () فهذه القاعدة من القطعيات الشرعية والكليات الدعوية. وما يضل عنها إلا أعمى! وما أفلح فاجِرُ بني إسرائيل الذي قَتَلَ تِسْعاً وتسعينَ نفساً حينما قَصَدَ عَابِدَهُمْ؛ فأفتاه بالجهل؛ فأتمَّ به المائة! ولكنه أفلح وفاز لَمَّا قَصَدَ عَالِمَهُمْ؛ فكان بتوجيهه الحكيم من التائبين! فتلقته ملائكة الرحمة والغفران. () وإنما العَالِمُ: هو الفَقِيهُ الرَّبَّانِيُّ الْحَكِيمُ، الذي يُرَبِّي بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، كما سيأتي بيانُه مفصلا بحول الله. ولكنْ لَمَّا عَزَّ وجود مثل هذا في زماننا؛ التف بعض الشباب حول من أحسن دغدغة عواطفهم النفسية الجريحة، بما يعانون من التهميش الاجتماعي، والظلم السياسي؛ فاختلطت في أنفسهم مشاعر التدين بمشاعر الرغبة في الانتقام لأوضاعهم الاجتماعية المتردية؛ مما أنتج أجساما تنظيمية قد تتحول في بعض الأحيان إلى خلايا سرطانية، تستوعب الشباب بصورة تجميعية متضخمة؛ لتقتل مواهبهم الإبداعية، وتحجم طاقاتهم الإنتاجية، وتحصرها في اجتهادات إملائية تلقينية، لا تدع مجالا للتفكير العلمي الحر! وهي - قبل ذلك وبعده - تشط بعيدا عن مراتب الأولويات الشرعية للأمة، الراجعة إلى موزاين الشريعة لا إلى العواطف والأهواء! () مما أدى إلى حصر كثير من مظاهر الصحوة الإسلامية المعاصرة في مأساة ما سميناه بآفة (التنظيم الميكانيكي). وقد بَيَّنَّا في دراسة سابقة أن (من أخطر أخطاء العمل الإسلامي المعاصر الوقوعَ في شَرَكِ تحزيب الإسلام!) () مما أعطى فرصة للدوافع السياسية الجزئية في التحكم في القضايا الكلية للدعوة الإسلامية، وتهميش دور العلم والعلماء! وبهذا اضطربت الموازين، واختلت المقاييس؛ فكان التضخمُ السياسي في العمل الديني، وكان الانحرافُ في التصور والممارسة! () وصار التشنج في الخطاب هو السمةَ الغالبةَ على قِطَاعٍ عَرِيضٍ من هذه التنظيمات! بعيدا عن قواعد العلم بالله وبأمره! إلا قليلاً قليلاَ! والخبير بأحوال البلاد والعباد، وبميزان التدافع العالمي اليوم، يدرك بوضوح أن مثل هذه الاتجاهات التي تتحرك بمقتضى ردود الأفعال المتشنجة؛ إنما هي لعبة - من حيث تدري أو لا تدري - بيد المخابرات الأجنبية، تتحرك في وقت معلوم، وبشكل معلوم، كالدمى، في الاتجاه الذي يخدم مصلحة (الآخر). وعَمَلُ (الآخَرِ) ليس بالأسلوب البليد، الذي يكون فيه ممليا بصورة مباشرة على هذه الحركة أو تلك، كلا طبعا! وإنما هو يقوم بما نسميه بـ (اللعب العالي!) حيث يصنع الظروف والاستفزازات، التي من شأنها أن تحرك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير