إنَّ التأريخَ لهذا العملِ الكبيرِ يعطيكَ ميزةَ العملِ الدؤوبِ، وينبئُكَ عن عزمِ الرجلِ الذي لا يكلُّ ولا يملُّ، بل واصلَ عملَه طيلةَ هذه السنين، حتَّى تحقَّقَ له مبتغاه، وهو أمرٌ ليسَ صعباً على من عرفَ الشيخَ وتتبعَ آثارَه العلميَّةَ، يمكنُ هذا من خلالِ ما تحدَّثَ به الشيخُ عنه في مؤلفاتِه أو مقالاتِه، مما قالَه أو وعدَ به، وأرادَ الله سبحانه وتعالى أن يتمَّه له.
إنَّها مواقفُ إذا تدبّرَها العاقلُ أيقنَ بصدقِ الرجلِ في توجهِه، وتوفيقِ اللهِ له.
وحتى يكونَ للتاريخِ الزمنيِّ قيمةٌ، فإنّني سوفَ أسجِّلُ هذه الظواهرَ التي مرَّ بها هذا العملُ حسب السنين مبتدئاً بها، حتى تكون الصورة التي مر بها العمل بها واضحة، منذُ كان فكرةً حتى نجزَ كتاباً ضخماً، ليكون مثالاً حياًّ على صدق الرجل وتوفيق الله سبحانه له.
1366هـ:
كانتِ البدايةُ لهذا العملِ، وفي مكةَ المكرّمةِ، بلدِ اللهِ الحرامِ، يقولُ الشيخُ – رحمَه اللهُ تعالى -: " قدمْنا مكةَ المكرَّمةَ في صفر سنةَ 1366هـ يناير 1947م، وتسلَّمْنا أعمالَنا ووجدتُني مكلَّفاً بدراسةِ كتابِ (الدروسِ النحويَّةِ) للأستاذِ حفني ناصفٍ وزملائِه، كنتُ أجلسُ في الحرمِ من العصرِ إلى العشاءِ، فرأيتُ أنَّه لا بدَّ لي من قراءةٍ تصلُني بمادّتي التي تخصَّصْتُ فيها، وانقطعْتُ لها، وإلا فقدْتُ كثيراً من معلوماتِ النحوِ، شأنُ كلِّ العلومِ النظريَّةِ، إذا لم يكنْ صاحبُها على صلةٍ بها بالقراءةِ فَقَدَ كثيراً من مسائلِها.
ومَرَّ بخاطرِي أنَّ كثيراً من النحويينَ ألَّفُوا كتبَهم بمكةَ:
أبو القاسمِ الزجاجيُّ ألَّفَ كتابَه (الجملَ) بمكةَ، وكانَ كلما انتهى من بابٍ طافَ حولَ البيتِ.
ابنُ هشامٍ ألفَ كتابَه (مغني اللبيبِ) لأولِ مرةٍ في مكةَ، ثمَّ فُقِدَ منه في منصرفِه إلى القاهرةِ، ولمَّا عادَ إلى مكَّةَ ثانيةً ألَّفه للمرَّةِ الثانيةِ.
لم يكن لديَّ تخطيطٌ عن دراسةٍ معيَّنةٍ، ولا كتابٍ معيَّنٍ، وإنما تمنيتُ أن تكونَ هذه الدراسةُ لها صلةٌ بالقرآنِ الكريمِ، ليكونَ ذلك أليقَ وأنسبَ بهذا الكتابِ المقدَّسِ.
خطرَ ببالي خاطرٌ، هو أن أنظرَ في استعمالِ القرآنِ لبعضِ حروفِ المعاني، فمثلاً (إلا) الاستثنائيةُ لها وجوهٌ كثيرةٌ في كلام العربِ، فهل استعملَ القرآنُ هذه الوجوهَ كلَّها أو بعضَها دونَ بعضٍ".
من هنا مكاناً وزماناً بدأت فكرةُ هذا العملِ الموسوعيِّ، وبدأ صاحبُها في العملِ منذ ذلك التاريخِ.
1375هـ:
يخبرُ الشيخُ أنّه ينوي إخراجَ كتابٍ يتناولُ دراسةَ أسلوبِ القرآنِ، بعد أن خطا خطواتٍ في هذا العملِ، واتضح الهدفُ عنده، وقرَّر أن تكونَ دراستُه للقرآنِ دراسةً تعتمدُ على الاستقراءِ، فيقولُ: " وفي النيَّةِ – إن كانَ في العمرِ بقيَّةٌ – أن أخرجَ كتاباً يتناولُ دراسةَ أسلوبِ القرآنِ الكريمِ دراسةً تعتمدُ على الاستقراءِ، أرجو اللهَ أن يوفِّقَني في إتمامِه، ويعينَني على إخراجِه، إنَّه نعمَ المولى ونعمَ النصيرُ.22ربيع الأول سنة 1375هـ - 7 نوفمبر 1955 م ".
وقد حقَّق الله له أمنيته، ومدَّ في عمره كما سترى من التتبع التاريخي التالي.
1395هـ:
في هذا العامِ يخبرُ الشيخُ أنَّه أمضَى أكثرَ من خمسةٍ وعشرين عاماً يعمَلُ في هذا الكتابِ، ولم ينجزْ إلا دراسةَ جانبٍ واحدٍ؛ هو الحروفُ والأدواتُ، قالَ – رحمَه الله تعالى -: " فهذا العنوانُ (دراساتٌ لأسلوبِ القرآنِ الكريمِ) إنَّما هو عنوانٌ لبحثٍ تناولَ بالدراسةِ جانِباً من جوانبِ الدراساتِ القرآنيةِ، وهو الجانبُ النحويُّ، أقمتُ على دراسةِ هذا الجانبِ أكثرَ من خمسةٍ وعشرين عاماً، وما فرغتُ إلا من جانبٍ واحدٍ من جوانبِ الدراسات النحويةِ، وهو دراسةُ الحروفِ والأدواتِ في القرآنِ".
¥