ثم اختار موضوعاً في القراءات لشهادة الدكتوراه. وبعد أن أنجز القسم الأكبر من رسالته، وقدّمه إلى الأستاذ الدكتور شوقي ضيف المشرف على الرسالة بدا له أن يتوقف عن إنجاز ما بدأ، وزهد في الألقاب، وعزف عنها، وعاد إلى دمشق ليستأنف التدريس في الجامعة.
وما زلت أذكر أن الدكتور شوقي ضيف، وكان المشرف على رسالتي أيضاً، حدثني عن رسالة الأستاذ راتب في القراءات حديث المعجب، وذكر لي أن الجزء الذي قدّمه كاف لنيل درجة الدكتوراه، وطلب إليّ أن أبلغه ذلك، وأحثّه على الحضور إلى القاهرة للمناقشة، وأبلغت الصديق الرسالة، فما زاد على أن تبسم.
وأمضى الأستاذ النفاخ على منبر التدريس في جامعة دمشق بعد عودته من القاهرة سبعة عشر عاماً (1962 - 1979م)، وتخرّجت به أجيال من الطلاب ما زالت تذكر له ما بذل من جهد، وما قدّم من عون، ليبصّرهم ويرشدهم ويدلّهم على أصول البحث، ويضع بين أيديهم مفاتيح المعرفة يتهدّون بها إلى فهم كلام الأقدمين.
واختار أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق الأستاذ أحمد راتب النفاخ عضواً عاملاً في المجمع عام 1976م، فكان هذا الاختيار تتويجاً للصلات الوطيدة بينه وبين المجمع. وشارك الأستاذ النفاخ في أعمال المجمع المشاركة الطيبة، وقام بجهد جاهد في لجانه، وكان له القدح المعلّى في أعمال لجنة الأصول ولجنة المجلة والمطبوعات.
وسعد المجمع من بعد بتسميته رئيس المقررين فيه (1979 - 1992م).
* * *
كان رحمه الله جبلاً راسخاً من جبال العلم، قد جعل الكتاب خدينه وأنيسه، فلا تراه إلا قارئاً أو مقرئاً، "وقد أتقن كثيراً من العلوم التي عرفها السلف، أو استحدثها الخلف، وبذّ الأقران في فنون منها، انتهت إليه الرياسة فيها في عصرنا هذا في بلدنا هذا، كالقراءات والنحو والبلاغة والعروض واللغة فقهها وعلمها، وأصبح حجة فيها لا ينازعه منازع. هذا إلى أسلوب جزل متميز في الكتابة تفرّد به واشتهر".
وقد ألف طلابه وأصدقاؤه أن ينعتوه بلقب (علامة الشام) إيذاناً بما يكنّون له من الإجلال والتقدير.
عرفته في أواخر الخمسينات، وأنست بصحبته، وامتدت صداقتنا حتى قضى الله قضاءه، فعرفت فيه الصديق المخلص، الكريم الخلق، الطيب القلب، الصادق الوّد، يسارع في الخيرات، قد نصب نفسه لتلبية قاصديه، ومساعدة طلابه، فلا يبخل بعلم، ولا يضن ّ بعون، مهما يكلفه ذلك من مشقة وجهد.
وكنت كثيراً ما أستشيره وأسائله في قضايا لغوية ونحوية شمست واستعصت، فيلين أبيّها، ويستدني قاصيها، فأحسنّ. أنه البحر علماً ومعرفة.
من أبرز صفاته أنه كان معلماً، بالمعنى الرفيع للكلمة. فطر على القراءة والمطالعة، وأحب العربية وعلومها الحب الجمّ. وكان طلعة لا يريد أن يفوته شيء في الباب الذي ندب نفسه للقراءة والإقراء فيه، فأكبّ على الكتب المصادر التي أّلفها علماء العربية الأقدمون، وما زال يدارسها حتى كشفت له أسرارها، وتبيّن أصولها ومراميها. ثم ضمّ إلى ذلك مطالعة ما ألف في عصرنا من علوم اللغة المستحدثة ليستبين خطأها من صوابها، على هدي ما عرف من منطق العربية الصحيح. ولقد تعشق العربية وشغفه حبها، إنها له لسان وهوية وحياة، وقد عبّر عما يحسّه من ذلك بقوله: " آليت على نفسي ألا أعيش إلا لها، ولكتابها العربي المبين". ولقد وقف حياته حقاً لدرس العربية وتدريسها.
وكان شديد الحرص أن يذيع بين تلامذته وإخوانه ومريديه أطرافاً من عبقرية هذا اللسان العربي المبين ليحبّبه إليهم، فكان لا يكتفي بالمحاضرات التي يلقيها على منبر الجامعة، ولا بالحلقات التي تعقد في غرفته بالجامعة، بل كان يستقبل طلابه وزائريه في منزله المعمور دائماً، حيث كان يلتقي العالم قد جاء يستفتي في مشكل صادفه، والطالب قد أقبل يريد العون في موضوع تصدى لمعالجته، والأصدقاء الذين ألفوا مجلس الأستاذ يلتقطون الفوائد النفيسة.
وكان الأستاذ جمّ النشاط، يتدفق في حديثه لا يمّل ولا يتوقف، يحيط بجوانب المسألة المطروحة، ويعدّد الآراء والأقوال، ويحيل على المصادر ليقدم لسائله وسامعه ما ينير الطريق، ويهدي إلى سواء السبيل.
وكان يفد إلى مجلسه كبار العلماء الذين يزورون دمشق، يأتونه_ قاصدين، حباً في لقائه، وتطلعاً إلى فوائده.
¥