كان شعاره الأول في حياته نشر العلم وبثه، وكان يرى في نهج علماء السف الصالح قدوة طيبة. ففتح بابه، وأقبل إليه الطلاب والمريدون والأصدقاء. وطالما تطلع إلى أن يكون مجلسه بأحاديثه، وما يتفرغ إليه من حوار، النواة الصالحة، والوسيلة الناجعة لتخريج طلاب يحملون عنه العلم، لينشروه في الملأ.
وكان من تمام إيمانه بنشر العلم وبثه أنه وضع مكتبته المترعة بنفائس الكتب، وصور المخطوطات بين أيدي طلابه وزائريه، يبحثون فيها عن طلباتهم، فإذا شاؤوا الاستعارة أعارهم من الكتب النادرة ما يريدون، خلّة نبيلة كريمة جبل عليها، ولم يعدل عن عادته تلك، على ما رزىء به من ضياع كثير من كتبه النفائس.
وحفلت كتبه بالتعليقات الثمينة القيّمة، فقد كان، رحمه الله، إذا لاح له، وهو يقرأ كتاباً، موضعٌ يحتاج إلى تعليق لإيضاح مبهم، أو إصلاح غلط، يسارع إلى إثباته في حاشية الكتاب. وكانت هذه الفوائد التي لا يقوى عليها إلا عالم ثبت متمكن كالأستاذ راتب، معروضة لكل واردٍ أحبّ أن ينتفع بها.
وكان رحمه الله يسارع أحياناً فيرسل بتلك التعليقات إلى محقق الكتاب، يضعها بين يديه، لأن غايته ومطلبه أن ينشر الكتاب محققاً صحيحاً بريئاً من الآفات.
وما أكثر ما كتب وصحح للآخرين، يبذل ذلك دون منّ، ولولا أن أشار عدة مؤلفين في كتبهم إلى ما قدّم لهم، وشكروا له جميل ما صنع من أجلهم، لما علمنا علم ذلك.
وإذا كانت مكتبة الأستاذ أحمد راتب تغصّ بالكتب النوادر والنفائس، فإن أغلى ما فيها وأنفسه تلك التعليقات التي حفلت بها حواشي كتبه. وطالما رجوت الصديق الكريم أن ينشر تلك التعليقات ليفيد منها الباحثون وطلاب العلم.
وكان رحمه الله على خلق كريم، وفياً لأصدقائه، محباً لإخوانه، وكان شديد التعلق بالمثل العليا، والقيم الخلقية، قد أخذ نفسه بها أخذاً شديداً. وكان صريحاً صلباً في الحق، م يعرف الهوادة، ولم يرض عن المصانعة.
وفي هذا وحده تفسيرٌ لمسلكه وصلاته بالناس. وكان هذا المسلك الصارم سبب تنكّبه حيناً بعد حين عن أصدقاء خيل إليه أنهم دون ما كان يأمله فيهم. وكانت هذه الصدمات تزيده تشبثاً بموقفه، وإصراراً على نهجه، وابتعاداً عن دنيا الناس وواقعهم، وزهداً فيما يرغبون فيه.
فقصر نفسه على عمله المجمعي، ووقف عليه كثيراً من جهده ووقته: كان رئيس لجنة الأصول، وكان عضواً في لجنة المجلة والمطبوعات، فكان ينفق الساعات الطوال في النظر في مقالات المجلة وتصحيح ما زاغ عن الصواب، فإذا ما انتهى من عمله المجمعي انقلب إلى منزله ليستأنف العمل والقراءة، ليستقبل الطلاب والمريدين والعلماء من أصدقائه. واكن يرى في ابنه الصغير عبد الله –سلمه الله- قرّة عينه، وأنسه الأنيس، يستروح به من أثقال الهموم التي يكابد. وهكذا قضى سنواته الأخيرة بين المجمع والمنزل، متزهداً مترفعاً، لا همّ له إلا القراءة والتعليم ومعونة أصدقائه وقاصديه في بحوثهم.
وبدا له أنه لم يحقق ما كان يصبو إليه. لقد دأب وعمل، وجهد وجاهد ليل نهار لتخريج جيل يضطلع بعبء درس العربية وتدريسها، قد وعى منطقها، واستبانت له أسرارها، وأوتي القدرة على نشر كنوزها الثمينة فلم يبلغ مأموله.
كان يحسّ أنه غريب في دنياه، فهو يحمل همومه، وتبهظه أحزانه، ولا يكاد يرى من يبوح له بها. لقد أفردته أخلاقه ومثله، وباعدت بينه وبين ما حوله. وكنت حين أراه، وأحسّ ما يعتلج في نفسه أردّد هامساً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى للغرباء".
لم أجد في صفته أبلغ من قوله يصف صديقه الأستاذ عبد الكريم زهور وكأنما كان يصف نفسه: "كان –رحمة الله- لا يتعلق من الحياة إلا بمعانيها السامية، لا تزدهيه المناصب، ولا تغرّه الألقاب، ولا تستغرقه هموم نفسه. وإنما كان همّه الأكبر الذي ظلّ أبداً يعتلج في فكره وضميره، ويصرّفه في كل مازاول من عمل على حكمه همّ أمته ومطامحها ومستقبلها، يسدده في مساعيه فكر نير لا تعمى عليه معه السبل، وخلقٌ قويم يرتفع به فوق ما ينحطّ فيه ضعاف النفوس من سفاسف، وإلى ذلك عزمٌ صادق لا يلين أمام الصعاب. ولم تزده –أكرم الله مثواه- تجاربه وما قاسى من محن إلا مضاءً في عزمه، وتسامياً في فكره، واستبصاراً في طريقه، كالذهب الإبريز لا يزداد على امتحانه بالنار إلا خلوصاُ وتوهجاً.
¥