تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يكثر محبوه ويكثر ناقدوه معاً. ولهذا أيضاً يخلص محبوه في محبتهم إياه إخلاصاً قلّ نظيره في المحبين. لقد كان هو نفسه المثل الحي في الصدق والإخلاص والوفاء لمن يحب. ولو شئت أن أستذكر بعض صورها في حياتي وحياة من أحبهم وأحبوه لما انتهيت. وكلت إليه يوماً، وكنت مقبلاً على سفر، أن يتفقد أهلي في غيبتي. فما تخلف عنهم يوماً. يسير إليهم في بيتهم، فيطرق الباب ويدير إليه ظهره، ويسألهم عن حاجاتهم. ويكل إليه آخرون الإشراف على طبع بعض كتبهم والنظر فيها، فينظر فيها، ويصحح ما يستدعي التصحيح، ويتمم نقصها، ويضيف إليها الحواشي والتعليقات. ويقصده الطلبة في بيته، فيجلس إليهم ساعات يرشدهم ويحقق لهم بعض النصوص، أو يعيد قراءتها معهم، لا يضجر ولا يملّ ولا يشكو. وقد قارب بيته، من هذه الناحية، أن يكون مدرسة صغيرة لطلاب العلم، وقارب أن يكون له، في بعض الرسائل الجامعية، من أصالة الرأي، مثل ما لأصحابها فيها، أو أكثر كثيراً في بعض الأحيان! * * * والآن، ما الذي يبقى من الأستاذ النفاخ لنا وللأجيال المقبلة؟ يبقى منه النموذج الإنساني الساطع الذي وفق بين قوله وفعله، وحقق في نفسه مثله: أعرض عن مغريات الدنيا وارتفع عنها: لم يخلبه المال فعاش في بيت بسيط جداً، في حدود الكفاية التي تصون ماء الوجه. لم يخلف لأهله إلا هذا البيت الذي كان أبوه خلف له ثمنه، وإلا الكتب التي صحبها ونذر حياتها لها. لم يسع إلى منصب ولم تفتنه المظاهر. ولم يقف بباب أحد. وربما جاءه أصحاب الحاجات فقضاها لهم ونسي حاجة نفسه وأهله! أنفة أكاد لا أعرف لها مثيلاً في من عرفت من الناس، وترفع عن كل ما يطمع الناس فيه. ولعل عزوفه عن السعي في مناقشة رسالة الدكتوراه، بعد أن تأخر فيها (لغلبة نزوعه إلى التحرز والتدقيق) وبلغ من كتابتها حداً فاق ظن مناقشيه، يقع في هذا الجانب من تكوينه. فقد أنف، بعد أن تأخر فيها، من أن يقف مع فلان وفلان، ممن هم في سن طلبته، أو في مستواهم أحياناً، في مواقف واحد! وقد أربكه ذلك في عمله من بعد. ولكنه، على نحو ما، كان يستشعر فيه نشوة الانتصار على النفس! ويبقى من الأستاذ النفاخ، لنا وللأجيال المقبلة، مثل شاخص في الانقطاع إلى العلم وإتقانه يبلغان حد لتصوف. وقد كنت أقف إلى مكتبته أحياناً وأقلب بعض كتبها، فتطل عليّ من حواشيها التعليقات والتصحيحات والإحالات، يكتبها بخطه الدقيق، ويشير إلى مواضعها، في المتون، من فوق السطور، على طريقة السلف. كان يجد عزاءه في القراءة. وكان ربما استوفى قراءة الكتاب في الساعات. وكان من أقدر الناس على قوة التمثل والوقوف على مفاصل الكلام، كما كان يسميها (يعني محاورها الفكرية). وكان يبلغ من العمق، في تحليل الكتب أحياناً، ما يصلح، لو كتب، أن يكون درساً يقرأ. ويبقى من الأستاذ النفاخ، لنا وللأجيال المقبلة، كتب وفهارس ثمينة ومقالات ومختارات ونقول ورسائل وشروح وتعليقات، إضافة إلى ما لم يطبع منها، وفيها أثره الكبير في القراءات. وهي، في جملتها، ثروة أدبية ولغوية تبلغ الغاية في الإتقان. ولو كان انصرف إلى تنميتها عن كل ما شغله من أمور الدنيا والناس، مع التخفف من المبالغة في التحرز والتدقيق والتجويد، لبلغت، على يده، أضعاف ما خلف منها. على أنها، لو جمعت ونسقت موادها ونشرت، لخففت قليلاً من فداحة الخسارة فيه. * * * وبعد فقد لا يحق لنا، في هذه المرحلة الحزينة من حياة الوطن وواقع قضيته الكبرى، أن نبكي أفراد الناس. ولكن "الشجا يبعث الشجا"، والألم موصول بعضه ببعض. والأوطان، في نهاية الأمر، تكبر بأفذاذها. ومن حقهم عليها أن تكرمهم وترفع من ذكرهم. وهي، إذ تفعل، تكرم نفسها، وترفع من ذكرها. لقد كان الأستاذ النفاخ واحداً من علماء العربية الكبار، يكاد يكون لا مثيل له في أوطان العربية الممتدة إلى حيث يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة. ولئن ضاقت به جدران الجامعة يوماً، إنها قد تضيق بمثله في هذا الوطن الكريم الذي نرجو أن يبلغ يوماً من مرتبة الإنصاف ما بلغنا نحن من مرتبة الحب. أنت تعرف أيها الصديق، وقد مضيت اليوم إلى المجهول الكبير، وتخطيت تخوم هذا العالم الذي عشت حياتك تضيق به، أنّ ما أقوله فيك لا تمليه المحبة وحدها، ولكن يمليه معها الإخلاص للحق الذي أخلصت له حياتك. وربما أملته معهما الحسرة: فمن أين يجود

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير