تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن هنا فإني أرى عدم إطلاق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم؛ وذلك لِمَا لهذا الوصف (الغرابة) من إيحاء تُجَلُّ ألفاظ القرآن الكريم عنه وتُنزه، كما أن إيحاء هذه اللفظة ملازم لها لا ينفك عنها أبداً، مهما كان غرض من أطلق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم، ومراده منها.

فضلاً على أن غرابة الألفاظ من الأمور النسبية التي يتفاوت فيها علم الناس، فما يغرب عنا يقرب من غيرنا، وما نجهله نحن يعلمه سوانا، ويحيط به، ويستعمله في كلامه، ولو كان الجهل بالألفاظ ومدلولاتها عيباً مخلاً بفصاحتها لخرج شطر الكلام عن الفصاحة؛ وذلك لغلبة الجهل بها، وبعد الناس عن معانيها ودلالاتها (14)، فمَن ذا يحكم إذن من الناس - والحالة هذه - على مدى وضوح هذه الألفاظ أو غموضها، وبُعْد معناها؟!

ومن العجب أننا نطلق هذا الوصف (الغرابة) على الألفاظ بناءً على موقفنا نحن من معاني هذه الألفاظ قرباً وبعداً، جهلاً وعلماً، استعمالاً وتركاً، وحينما ندرك معنى تلك اللفظة، ونُحيط بها خُبْراً، ونُكثر من استعمالها تزول عنها الغرابة، وتصبح مأنوسة الاستعمال.

ومما يدعوني إلى رفض إطلاق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم؛ أن في هذا الوصف منافاة لكثير من نعوت القرآن الكريم التي ذكرها الله في كتابه عن كتابه العظيم، فما أكثر الآيات التي جاءت مبينة أن هذا القرآن بيِّن لا يحتاج إلى بيان أو إيضاح، ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - قوله: {آلر تلك آيات الكتاب المبين} [يوسف: 1]، وقوله {آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} [الحجر: 1]، وقوله: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 - 195]، وقوله: {طسم تلك آيات القرآن وكتاب مبين} [النمل: 1]، وقوله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات بينات} [النور: 34]، وغيرها من الآيات التي تدل على أن هذا القرآن غاية في البيان والوضوح، فهو بيِّن - كما ذكر الله عنه في هذه الآيات - فكيف يحتاج هذا الكلام البيِّن إلى مَن يُبيِّنه؟! إنه يُبين نفسَه بنفسه. (15)

ولعل مما يؤيد هذا الرأي، ويُؤكد ما ذهبتُ إليه أن الله - سبحانه وتعالى - بيِّن أن هذا القرآن مُيسَّر في قوله {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17 - 22 - 32 - 40] فقد يسَّره - سبحانه وتعالى - لنا، وسهَّله علينا رحمة منه بنا، بل منَّ علينا بهذا التيسير، وتفضل به، فكيف بنا بعد هذا كله نتجاهل هذا الأمر ونتجاوزه ونصف بعض ألفاظه بالغرابة، وهي منافية للتيسير ومناقضة له، فهما وصفان متضادان متناقضان فيما بينهما، فكيف يكون هذان الوصفان المتناقضان المتضادان وصفين لموصوف واحد؟! فالغرابة لا تلتقي أبداً مع التيسير والبيان.

كما أن إطلاق وصف الغرابة على ألفاظ القرآن الكريم تناقض بيّنٌ مع كثير من الآيات التي جاءت بالأمر بتدبر القرآن، والنظر فيه، والإقبال عليه، ومن ذلك قوله: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24]، فأنى لنا أن نتدبر ألفاظاً قد غابت عنا معانيها، وغمُض علينا مرادها، والمقصود منها؟! ولو كان الأمر كما يقولون لكان في هذا تحميل لنا ما لا نطيق، وتكليف لنا بما لا نستطيعه، ولا نقدر عليه.

وأحب أن أشير في هذا المقام إلى أن ما يذكره بعض العلماء من الشواهد على الغرابة كان من الأولى أن تُذكر تلك الآيات وتُدرس في مبحث (ائتلاف اللفظ مع المعنى)؛ وذلك أن من أبرز الآيات التي تُذكر شاهداً للغرابة قوله تعالى: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين} [يوسف: 85]، وقوله: {أفرأيتم اللاة والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى} [النجم: 19 - 22]،كان من الأولى أن تُذكر هذه الشواهد وغيرها في مبحث (ائتلاف اللفظ مع المعنى) لا في مبحث الغرابة، وهذا ما فعله ابن أبي الإصبع المصري في كتابه (بديع القرآن) (16)، وقد فعله - أيضاً - الزركشي في كتابه (البرهان) (17)، يقول ابن أبي الإصبع في بيان المراد من هذا المبحث (ائتلاف اللفظ مع المعنى): ((وتلخيص هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضاً، ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها، غير لائقة بمكانها، كلها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير