تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

موصوف بحسن الجوار)) (18)، ثم ذكر شاهداً على ذلك مبيناً أن من أمثلة هذا الباب قوله تعالى: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين}، ثم بيَّن أن مجيء هذه الألفاظ بهذه الصورة كان اقتضاءً لحسن الوضع في النظم، فلا أعظم ولا أبلغ من أن تجاور كل لفظة اللفظةَ من جنسها؛ وذلك أن في هذا ((توخياً لحسن الجوار، ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم ... )). (19)

وهذا ما فعله الرافعي - أيضاً -، وأشار إليه في قوله تعالى {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى} فقد بيَّن بلاغة لفظة {ضيزى}، ودلالة اختيارها في هذا المقام في التعبير عن هذا المعنى قائلاً: ((ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه، ولو أدرتَ اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها، وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات، فقال تعالى {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى} فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصوِّر في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى، والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنتْ في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدَّين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية)). (20)

والمتأمل في كلام الرافعي هذا يجد أنه يشير إلى ارتباط الألفاظ بالمعنى الذي جاءت لتحقيقه وبيانه، وهو المراد بائتلاف اللفظ مع المعنى، وأن ما يبدو في الظاهر من الألفاظ القرآنية غريباً فليس بغريب، بل هو في موضع عجيب من البلاغة، وفي مكنة مكينة من الفصاحة؛ لأن البلاغة أصلاً في سوق الألفاظ بحسب دواعي المقامات، وتطلب السياق لها.

وأخيراً: من أكبر الأسباب والدوافع التي جعلتني أذهب إلى هذا القول وآخذ به أن كثيراً من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن القرآن في بيان نعوته وأوصافه - وكلها نعوت جلال وكمال – كشفت ما تميز به القرآن الكريم من الهدى و البيان، وما أودع الله فيه من الوضوح والبرهان، مما جعل قلوب المؤمنين تتعلق به وتقبل عليه قراءة وتدبراً، وحسبك شاهداً على ما أقول قوله - تعالى -: { ... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15 - 16]، وقوله: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء: 174] فأنى لكتاب وُصف بالنور والبيان، والهدى والبرهان أن يكون فيه ألفاظ تُوصف بالغرابة، وغموض المعنى، وبعد المراد منها وخفاؤه؟! أبداً فإن هذا لا يكون ألبتة. والله أعلم. (وأحب أن أشير في هذا المقام بأني لست بدعاً في هذا القول، كما أني لست منفردا فيه، فقد أفدت من علماء كثيرين أجلة، ولكني اطلعت على كلامهم، وكونت منه هذا الرأي، وهو خاص بي، ويمثل قناعة تامة لدي، وأتمنى من يطلع عليه ألا يبخل بذكر رأيه وموقفه من هذا المقال تأييداً أو تفنيداً)


(1) انظر: مادة: غرب لسان العرب.
(2) مفردات ألفاظ القرآن: مادة: غرب.
(3) العمدة في غريب القرآن: 13، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق يوسف بن عبدالرحمن الرعشلي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط الأولى: 1974.
(4) انظر: مادة: غرب أساس البلاغة:.
(5) انظر: لغة القرآن الكريم في جزء عم: 153، د. محمد أحمد نحلة، دار النهضة العربية بيروت، 1981.
(6) غريب الحديث: 1/ 70، لأبي سليمان الخطابي، تحقيق عبدالكريم إبراهيم العزياوي، جامعة أم القرى، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، 1402 ه-.
(7) انظر: الإيضاح: 1/ 13، للخطيب القزويني، إحياء الكتب الإسلامية بيروت.
(8) المصدر السابق: 1/ 13.
(9) مختصر التفتازاني على تلخيص المفتاح: 1/ 83، للعلامة سعد الدين التفتازاني، نشر أدب الحوزة، توزيع مكتبة دار الباز، ضمن شروح التلخيص.
(10) للاستزادة في النظر في الأسباب التي دعت إلى غرابة الألفاظ، انظر: شروح التلخيص: 1/ 83، وحاشية الدسوقي: 1/ 83، نشر أدب الحوزة، توزيع مكتبة دار الباز، ضمن شروح التلخيص.
(11) مقدمة تفسير ابن النقيب في علم البيان والمعاني والبديع وإعجاز القرآن: 453، لأبي عبدالله جمال الدين المقدسي، الشهير بابن النقيب، تحقيق: د. زكريا سعيد علي، مكتبة الخانجي القاهرة،ط الأولى: 1415 ه-.
(12) الرذل: الرديء من كل شيء.
(13) مقدمة ابن النقيب: 453.
(14) انظر: حاشية الدسوقي: 1/ 83.
(15) المعجزة الكبرى: 552.
(16 انظر: بديع القرآن: 77، لأبن أبي الإصبع المصري، تحقيق: حفني محمد شرف، نهضة مصر للطباعة والتوزيع.
(17) انظر: البرهان في علوم القرآن: 3/ 378.
(18) بديع القرآن: 77.
(19) المصدر السابق: 78.
(20) إعجاز القرآن: 230.
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير