وأما القول الثاني؛ وهو أن المراد بقوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب؛ فروي من طريق سعيد بن جبير أوعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ([19])، وهو قول ابن اسحاق ([20])، ورجحه ابن كثير وانتصر له وذكر أنه هو المتعين في تفسير الآية ([21]).
وذكر أن سبب تعين هذا القول هو أن الحجة لا تظهر على اليهود على التأويل الأول؛ إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أن يتمنوا الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت.
ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون الموت في حال الصحة، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟!. ([22])
ومن أسباب ترجيح هذا القول أيضاً: ما ذكره ابن القيم في آخر كلامه السابق من أن القول الأول مخالف للواقع المشاهد؛ حيث إن كثيراً من اليهود يتمنى الموت لفقره وبلائه، وشدة حاله.
النتيجة:
المعنى الظاهر لقوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هو القول الأول المشهور في تفسيرها، وهو الذي يتبادر إلى الذهن لعدم حاجته إلى تقدير. فلفظ الآية يدل عليه، وسياقها يؤيده، وقول جمهور المفسرين يؤكده.
وقد تقرر عند المفسرين أن كل وجه من الوجوه السابقة – أعني: ظهور القول، وتبادره إلى الذهن، وموافقته لسياق الآية، وكونه قول جمهور المفسرين – يعتبر مرجحاً للمعنى الذي توفر فيه هذا الوجه؛ فكيف إذا اجتمعت هذا الوجوه!!.
وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من حجج لترجيح قولهم؛ فيمكن الجواب عنها بما يلي:
أولاً – قولكم: إن هذا القول هو قول ابن عباس رضي الله عنهما مردود من وجهين:
الوجه الأول: أن قول ابن عباس الصريح الذي يدل على قولكم إسناده ضعيف
كما سبق.
الوجه الثاني: أن الذي صح وثبت عن ابن عباس في تفسير الآية هو قوله: لو تمنى
اليهود الموت لماتوا ([23]). وهذا لا يدل على ما نسبتموه إليه صراحة؛ بل قوله هذا
محتمل، ودلالته على المعنى المشهور أقرب.
ثانياً – ما ذكرتموه من كون القول المشهور لا تقوم به الحجة على اليهود؛ إذ لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أن يتمنوا الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون الموت في حال الصحة، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟! = يجاب عنه بأن المسلمين الذين هم على الحق لم يدّعوا أن الجنة خالصة لهم من دون الناس كما زعم اليهود؛ بل يؤمنون أن الجنة لكل من آمن وعمل صالحاً، سواء كان من هذه الأمة أم من غيرها. ([24])
ويقال كذلك بأن المعروف المنقول عن كثير من صالحي هذه الأمة أنهم يتمنون الموت، ويرجون لقاء الله، ويطلبون الموت مظانه. وقد نقل بعض المفسرين في ذلك آثاراً كثيرة عن سلف هذه الأمة تدل على طلبهم الموت، وتمنيهم له؛ لما يرجون من ثوابه وما أعد لهم من النعيم. ([25])
ثالثاً – وأما ما ذكره ابن القيم رحمه الله من أن القول الأول مخالف للواقع المشاهد؛ حيث إن كثيراً من اليهود يتمنى الموت لفقره وبلائه، وشدة حاله = فيمكن الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن ما دلت عليه الآية من كون اليهود لن يتمنوا الموت أبداً خاص بمن تحقق فيهم الشرط المذكور في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} (البقرة:94) فالآية خبر عمن تحقق فيهم هذا الشرط. وقد يوجد من اليهود من لا يدعي هذا الادعاء.فما دلت عليه الآية حكم أغلبي؛ فليس كل فرد من أفراد اليهود داخل فيه، كما أن من المسلمين من لايتمنى الموت.
¥