لكن قد يقع الخلل من جهة الجمع بين قولين لا يمكن الجمع بينهما في ذلك المقام، وهو اختلاف التضاد الذي سبق ذكره، ومن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: (فارتقب يوم تاتي السماءبدخان مبين. يغشى الناس هذا عذاب أليم)، قالوا: (فانتظر -أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّ الناس، ويقال لهم: هذا عذاب مؤلم موجع، ثم يقولون سائلين رفعه وكشفه عنهم: ربنا اكشف عنا العذاب، فإن كشفته عنا فإنا مؤمنون بك).
وفي عبارتهم هذه إشارة إلى قولين لا يمكن الجمع بينهما في هذا السياق:
الأول: أن الدخان قد وقع، وأصاب المشركين من أهل مكة فقط، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه.
الثاني: أن الدخان من آيات آخر الزمان، وذلك إذا وقع عمَّ الناس كلهم.
فقولهم: (بهؤلاء المشركين)، ثم قولهم (ثم يقولون سائلين ... ) يدلُّ على أن الدخان قد وقع في عهدهم، وهذا قول ابن مسعود.
وقولهم: (يعمُّ الناس) إشارة إلى الدخان الذي يقع آخر الزمان، فهو الذي يعمُّ الناس كلهم.
فإن قلت: لِمَ لا يكون العموم في الناس من العموم المخصوص، قتُحمل عبارتهم على أن الناس أهلُ مكةَ؟
فالجواب: إن المفسر في مثل هذا المقام في حالة تفصيل وتوضيح، وإن كان هذا مرادهم ففيه إبهامٌ وإجمالٌ، فلو فصَّلوا لكان أولى خصوصًا أنهم ذكروا المشركين قبل هذه العبارة، ولول كانوا قالوا: (فانتظر -أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّهم) لكان دالاًّ بلا نزاع على أنه الدخان الذي ذهب إليه ابن مسعود.
ولا ريب أن الجمع بين هذين التفسير على هذا الأسلوب غير دقيق، ولقد كان أصحاب المنتخب في التفسير أوضح تفسيرًا، وأصرح عبارة، فقالوا: (10 ـ فانتظر - أيها الرسول - حينما ينْزل بهم القحط، فيصابون بالهزال وضعف البصر، فيرى الرجل بين السماء والأرض دخاناً واضحاً!.
11 ـ يحيط هذا الدخان بالمكذبين الذين أصابهم الجدب، فيقولون لشدة الهول: هذا عذاب شديد الإيلام.
12ـ كما يقولون استغاثة بالله: إننا سنؤمن بعد أن تكشف عنا عذاب الجوع والحرمان.
13 ـ كيف يتعظ هؤلاء، ويوفون بما وعدوا من الإيمان عند كشف العذاب، وقد جاءهم رسول واضح الرسالة بالمعجزات الدالة على صدقه، وذلك أعظم موجبات الاتعاظ؟).
وهذه المشكلة لا يمكن التخلص منها إلا بالآتي:
1 ـ النصُّ على الانتخاب من الأقوال، ولو كانت كلها صحيحة تحتملها الآية.
2 ـ استخدام الحاشية للتنبيه على الأقوال الأخرى، ويمكن أن يضاف فيها أيضًا الاحتجاج للأقوال.
3 ـ توسيع التفسير، للتنبيه على هذه الأقوال، لكن هذا سيخرج بالتفسير عن غرضه الأصيل، وهو الاختصار، وعدم اللبس على المبتدئين والعامة، الذين لا يصلح في حالهم حكاية الأقوال.
ومما يحسن لمن أراد اللاختصار مع ذكر الأقوال أن يجعل له منهجًا في ذكر الاختلاف، ومما رأيته مناسبًا في مثل هذا المقام ما يأتي:
أولاً: إذا كان الاختلاف يعود إلى معنى واحد، والتعبير عن تفسير المعنى بألفاظ متقاربة، فإنه يختار أقربها وأوفاها بالمقصود.
وإذا كان المفسرون قد ذكروا لازمًا لهذا اللفظ في ذلك السياق فيمكن أن يشير إليه ـ بعد ذكر معنى اللفظ ـ بعبارة تدلُّ على كونه ليس هو المعنى المطابق؛ كعبارة (ومن لازمه) أو (وينتج عن ذلك)، وأمثالها من العبارات.
ثانيًا: إذا كان الاختلاف يعود إلى معنى واحد، واللفظ يشتمل على أنواع أو أمثلة، فإنه يُذكر المعنى الجامع، ثم يُذكر بعض التفسيرات التي هي على سبيل التمثيل أو التنويع.
ثالثًا: إذا كان الاختلاف يعود إلى أكثر من معنى، وأراد المختصر ان يذكرها، فإنه يستعمل حرف العطف الدال على التنويع (أو)، وباستعماله هذا يشير إلى تعدد التفسيرات.
ـ[عبدالله المعيدي]ــــــــ[08 Jan 2007, 12:34 ص]ـ
شكر الله لك ياشيخ مساعد هذا الطرح التأصيلي الجيّد والمهم رزادك علماً وعملاً ..