تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[لطيفة من مغني اللبيب]

ـ[مهاجر]ــــــــ[17 - 06 - 2006, 08:43 ص]ـ

بسم الله

السلام عليكم

توفي فجر الخميس الماضي الأستاذ الجليل محمد الغامدي، رحمه الله، المشرف العام على موقع "هيا إلى العربية"، في حادث أليم، نسأل الله، عز وجل، له ولمن قضى معه من أهله الرحمة والمغفرة ولمن بقي الصبر والسلوان

http://www.alarabeyya.com/phpBB/viewtopic.php?t=3755&sid=2a687981da988d7589fc0b91589063eb

وعودة لموضوع المشاركة، وهي عن الأبيات الشهيرة التي بعث بها الرشيد إلى أبي يوسف:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ******* وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطلاق عزيمة ******* ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم

فمن أهم الشواهد في هذين البيتين:

أولا: ما ورد من أن أمير المؤمنين هارون الرشيد، رحمه الله، بعث إلى القاضي أبي يوسف، رحمه الله، يسأله عن هذه الأبيات، كما سبق، فقال: ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث وإذا نصبها؟ فقال أبو يوسف: فقلت: هذه مسألة نحوية فقهية، ولا آمن الخطأ إن قلت فيها برأيي، فأتيت الكسائي وهو في فراشه، فسألته، فقال: إن رفع طلقت واحدة، لأنه قال: "أنت طلاق"، ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث، وإن نصبها طلقت ثلاثا، لأن معناه: أنت طالق ثلاثا، وما بينهما جملة معترضة، فكتبت بذلك إلى الرشيد، فأرسل إلي بجوائز فوجهت بها إلى الكسائي .......... انتهى ملخصا.

فلو رفع "ثلاث"، كانت هي خبر المبتدأ، "والطلاق عزيمة"، أي أن طلاق العزيمة ثلاث، فتطلق واحدة، وإن نصب فإن جملة: والطلاق عزيمة، تصير جملة اعتراضية، ويكون السياق: أنت طلاق ثلاثا، فتطلق ثلاثا.

ويعلق ابن هشام، رحمه الله، بما ملخصه:

والصواب أن كلا الوجهين محتمل لوقوع الطلاق واحدة أو ثلاثا:

فأما وجه الرفع: فإنه إما أن تكون "أل" في الطلاق عهدية، كما في قوله تعالى: (فعصى فرعون الرسول)، أي موسى صلى الله عليه وسلم، فهو معهود ذكري، لسبق ذكره في الآية السابقة لهذه الآية، وهي قوله تعالى: (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا)، فيكون المعنى: إن الطلاق المذكور ثلاث، أو الطلاق المعهود ثلاث، فتطلق ثلاثا.

أو تكون "أل" جنسية، لبيان جنس الطلاق، كما في قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر)، أي: جنس الإنسان، فيكون المعنى: إن جنس طلاق العزيمة ثلاث، فتطلق واحدة، أو يقع ما نواه المطلق.

وأما وجه النصب:

فإما أن تكون جملة "والطلاق عزيمة"، جملة اعتراضية، ويكون السياق: فأنت طلاق ثلاثا، فتطلق ثلاثا، كما تقدم.

أو تكون منصوبة على الحالية من الضمير المستتر في "عزيمة" فيكون تقدير الكلام: والطلاق عزيمة إذا كان ثلاثا، ولا يلزم من ذلك وقوع كل طلاق ثلاثا لأنه ليس كل طلاق عزيمة، والله أعلم.

بتصرف من مغني اللبيب، (1/ 75، 76).

ثانيا: وقوع الفاء في جوابي الشرط: "فالرفق أيمن" و "فالخرق أشأم"، وجوبا، لأن الجواب في كلا الشرطين جملة اسمية، والله أعلم.

ثالثا: وقوع المصدر "طلاق" بمعنى اسم المفعول "مطلقة"، بضم الميم وفتح القاف، وهذا ما يعرف بـ "تبادل الصيغ".

وفي هذه القصة الطريفة عدة فوائد منها:

حرص خلفاء المسلمين المتقدمين على تحصيل علوم اللغة والدين، حتى عد بعضهم في عداد العلماء، كعبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وعبد الله المأمون العباسي، رحمهم الله جميعا، وما ظنك بخليفة يحيط نفسه بحاشية فيها أمثال أبي يوسف والكسائي، معلم ولدي الرشيد: الأمين والمأمون؟، ويوم أهمل حكام المسلمين علوم اللغة والدين وأحاطوا أنفسهم بحواش فاسدة من المهرجين والمنتفعين ضاعت هيبة الخلافة وطمع الأعداء في أمة الإسلام.

ومنها كذلك حرص أبي يوسف، رحمه الله، على تحصيل العلم، وإن علا منصبه، فقد كان آنذاك قاضي القضاة، الذي يتولى تعيين قضاة الدولة بنفسه، ومع ذلك لم يصبر حتى يلقى الكسائي، وإنما سار إليه بنفسه وأتاه وهو في فراشه ليسأله عن هذه المسألة النحوية الفقهية، وقد أثر عن هذا العالم الجليل، أنه تدارس مع أحد طلبته مسألة في رمي الجمار، وهو في النزع الأخير، وأثر عنه أنه لما مات ابنه، غسله وكفنه، ولم يحضر دفنه لئلا يفوته درس شيخه الإمام الأعظم أبي حنيفة، رحمه الله، فالله درك أبا يوسف:

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله ******* لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر

ومنها رد الأمر إلى أهله، فكل صانع أدرى بصنعته، فلم يهجم أبو يوسف، رحمه الله، على الفتوى في مسألة لا يحسنها حتى يسأل أربابها، ولذا اعتبر بعض العلماء قول النحاة في المسائل الفقهية التي تبنى على مسائل نحوية كمسألتنا هذه، وللمسألة تفصيل في كتب الأصول.

ومنها رد الفضل إلى أصحابه، فلم يتشبع أبو يوسف، رحمه الله، بما لم يعطه، وإنما اعترف للكسائي بالسبق في هذه المسألة فأرسل جوائز الرشيد له لأنه أحق بها، والمتشبع بما لم يعطه كلابس ثوبي زور، كما قال صلى الله عليه وسلم.

وعجبا لأولئك القوم، لقد جمعت لهم العلوم والآداب، فالناظر في سيرهم لا يعدم خلقا رفيعا يتأدب به أو علما جما يتزود منه، وأمة أعلامها كهؤلاء أمة ظاهرة وإن دال عليها أعداؤها حينا من الدهر.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير