[من بلاغة الكلمة في التعبير القرآني (الإبدال)]
ـ[نور صبري]ــــــــ[17 - 06 - 2006, 06:20 م]ـ
بقلم د. فاضل السامرائي
قد يستعمل القرآن الكريم المفردة أحياناً مبدّلة وذلك نحو (يَتَذكَّر) و (يذّكَّر) و (يَتَدَبَّر) و (يَدَّبَّر).
إن أصل هذا الابدال هو الفك بالتاء فـ (ادبَّرَ) أصله تَدَبَّرَ فأُبدلت التاء دالاً وأُدغمت في الدال، فسكنت الدال الاولى وجيئ بهمزة الوصل توصُّلاً الى النطق بالساكن.
وكذلك (اذَّكَّرَ) أصله تَذَكَّرَ، و (اطَّهَّرَ) أصله تطَّهَّرَ.
والمضارع كالماضي فـ (يدَّبَّر) أصله يتدبَّر، ويذَّكَّر اصله يتذكّر ويطَّهَّر اصله يتطهَّر، وهكذا .... وهو من الابدال الجائزلا الواجب، ولذا نرى الاستعمالين معاً في اللغة والقرآن.
وما يدور في الذهن من سؤالٍ عن الفرق بينهما في الاستعمال القرآني، فالجواب انه لا بدَّ من أن يكون القرآن الكريم قد فرق بينهما.
هناك حقيقتين لغويتين لا بد أن نذكرهما في هذا الامر:
الاولى: أن بناء (يَتَفَعَّل) أطول من بناء (يَفَعَّل) في النطق. فـ (يَتَذَكَّر) اطول من يذكَّر بمقطع واحد.
فـ (يَتَذكَّر) متكونٌ من خمسة مقاطع: (يَ + تَ +ذَكْ + كَ + رُ)
في حين أن (يذَّكَّر) متكونٌ من أربعة مقاطع: (يَذْ +ذَكْ+كَ+رُ).
والحقيقة الثانية أنَّ بناء (يفَّعَّل) فيه تضعيف زائد على (يتفعَّل) ففي الاولى تضعيفان وفي الثانية تضعيف واحد.
وهاتان الحقيقتان اللغويتان لهما شأنهما في تفسير ما نحن بصدده.
فما كان على وزن (يَتَفَعَّل) قد يوتى به في اللغة للدلالة على التدرج، أي الحدوث شيئاً فشيئاً نحو تمشَّى وتخطَّى ...
وقديؤتى بهذا الوزن للدلالة على التكلف وبذل الجهد نحو: تصبَّرَ وتحلَّمَ، أي كلّف نفسه وحملها على الصبر والحلم، وفي كلا المعنيين دلالة على الطول في الوقت والتمهل في الحدث.
وكذلك الامر في القرآن الكريم، فإذا اجتمعت صيغتان من هذا البناء في اللغة (يتفعَّل) و (يفّعّل) استعمل يتفعّل لما هو أطول زمناً من يفّعّل وذلك لإن الفك أطول زمناً في النطق كما ذكرنا، فهو ملائم في الحدث.
وما كان على وزن (يفّعّل) يأتي به القرآن فيما يحتاج الى المبالغة في الحدث، نحو فَعَلَ وفعَّلَ، كَسَرَ وكسَّرَ، قَطَعَ وقَطَّعَ، ففي كسّر وقطّع من المبالغة ما ليس في قطَعَ وكَسَرَ.
ونحو (فُعَال) و (فُعَّال) مثل كُبار و كُبَّار، فـ (كُبَّار) أبلغ من كُبار في الاتصاف بالحدث كما هو مقرر في كتب اللغة، فتكرار الحرف اشارة الى تكرار الحدث.
ومن ذلك في غير الافعال نونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، فإن الثقيلة آكد من الخفيفة.
ونحو (إنّ) غير المخففة و (إنْ) المخففة، فغير المخففة آكد من المخففة.
وهكذا يفرّق القرآن الكريم بين الصيغتين.
وعلى هذا فإنه يستعمل بناء (يتفعّل) لما هو أطول زمناً، وقد يستعمله في مقام الاطالة والتفصيل.
ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: (وَلَقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يَتَضَّرََّعونْ) [الانعام –42].
وقوله: (وما أرسلنا في قريةٍ من نبيٍ إلآّ أخذنا أهلها بالبأساءِ والضراءِ لعلهم يَضَّرَّعونْ). [الاعراف-94]
فقال في آية الأنعام: (يَتَضَّرَّعون) وقال في الأعراف (يَضَّرَّعون) بالإبدال والإدغام. وذلك انه قال في آية الأنعام: (ولقد أرسلنا الى أممٍ من قبلك)، وقال في الأعراف: (وما أرسلنا في قريةٍ) والأمم اكثر من القرية، وهذا يعني تطاول الإرسال على مدار التاريخ. فلما طال الحدث واستمر جاء بما هو أطول بناءً فقال: (يَتَضَّرَّعون). ولما كان الإرسال في الأعراف الى قرية قال (يَضَّرَّعون). فجاء بما هو اقصر في البناء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ أنه استعمل في آية الأنعام (أرسل الى) فقال: (ولقد أرسلنا الى أممٍ). واستعمل في الأعراف (أرسل في) فقال: (وما ارسلنا في قريةٍ). والإرسال الى شخص ما يقتضي التبليغ ولا يقتضي المكث، فإنك قد تُرسل الى شخص رسالة فيبلغها ويعود. وأما الإرسال في القرية أو في المدينة فإنه يقتضي التبليغ والمكث، فإن (في) تفيد الظرفية، وهذا يعني بقاء النبيًَّ بينهم يبلغهم ويذكِّرهم بالله ويريهم آياته المؤيدة. ولا شك ان هذا يدعوهم الى زيادة التضَّرُّع والمبالغة فيه، فجاء بالصيغ الدالة على المبالغة في الحدث والإكثار منه فقال: (لعلّهم يضَّرَّعون). فوضع كل مفردة في مكانها الآئق بها. والله أعلم.
يُتبع إن شاء الله إن انتفعتم به ....
ـ[أبو طارق]ــــــــ[17 - 06 - 2006, 06:57 م]ـ
بارك الله في القائل والناقل. وجزاكِ الله خير الجزاء , ونتمنى أن تنقلي لنا بين الحين والآخر ما تفضل به الأستاذ الفاضل والدكتور الجهبذ فاضل السامرائي حفظه الله ورعاه لنستفيد من آرائه إن شاء الله.
ولي سؤال أستاذتي الفاضلة حول كلمة وردت في النقل:
فقال في آية الأنعام: (يَتَضَّرَّعون)
الآية: ((لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)) أي أن التضعيف على الراء فقط.
جزاكِ الله خير الجزاء.
¥