وَالعَرَبي، وَلهُم في كيفيَّةِ صَبِّهِ طَريقة، غريبة ٌُ عَريقة، يُرفَعُ الإبريقُ فوقَ الراس، ثمَّ يُصَبُّ مِنْ بُعْدٍ عَلىَ الكاس، وَهِيَ بَلدة ٌ عَجيبة، وأجْواؤُها غريبَة.
جُلتُ في الشوارع ِ وَالأزقَّةِ وَالمَحال، وَرَأيتُ المَبانيَ القَديمة َ الراسِخة َ رُسوخَ الجِبال، على مرِّ العُصورِ وَاختلافِ الأحْوال.
ثمَّ لازَمتُ شَيخَنا الشَريفَ الكَتّاني، الذي هُوَ فِي عُلُوِّ الإسْنادِ بَيْنَ أقرانِهِ مَا لَهُ مِنْ مُداني، وَالتَمَسْتُ مِنهُ قِراءَة َ صَحيحِ البُخاري عَلى التوالي، فَخَتَمْتُه في أيامٍ وَليالي، ثمَّ أنْهَيْتُ مُوَطَّأ مَالِك، وصَحيحَ مُسلمٍ كذلك، وَكذا كِتابَ الشِفا للقاضي عِياض، وَغيرَه مِنْ كُتُبِ أهْلِ المَعرفةِ وَالتُقى والعِلمِ الفيّاض، وقد أتمَمْتُ عليه الكتابَ المذكورَ في أرْبَعَةِ أيّام، مَعَ الدَأبِ الحَثيثِ عَلى الحُضورِ وَالالتزام، كما هُوَ شأنُ ذوي الطُموحِ مِنَ التَلامِذة، في مُثافَنَةِ كِبارِ المَشايِخِ وَالأساتِذة، وقد مَنَحَني مِن وَقتِهِ الكثير، وَكانَ نَفَعَنَا اللهُ بعِلمِهِ وَتقواهُ لا يتَّكِئُ في أثناءِ قِراءَتي عَلى السَرير، تَأدُّباً مَعَ حَديثِ جَدِّهِ النبيِّ الرَسول، وَلا يُسْتَغرَبُ ذلكَ مِن سَليلِ المُرتضى وَالبَتول، وَهُوَ الآنَ قَدْ جَاوَز التِسعِينَ مِن عُمُرِهِ المُبارَكِ المَديد، مَتَّعَهُ اللهُ تعالى بمَوفورِ الصحَّةِ وَالعَيشِ الرَغيد.
وَلا تسألْ عَنْ زَوْجَتِهِ الأصِيلَةِ الشَريفة، المُؤمِنَةِ الصَالِحةِ العَفيفة، فإنَّ مِقوَلَ البَيَان، لَيَعْجُزُ عَن وَصفِ مَا غَمَرَتْني بهِ مِنَ الإحْسان.
وَمِنهُ ذهَبْتُ إلى الصِقَلِّي الضَرير، صَاحِبِ البَيان وَالتحرير، وَهوَ عُرَيْضيُّ النَسَب، وَمِنْ سَرَاةِ أهْلِ العِلْمِ وَالحَسَب، ذَرِبُ اللِسان، قَويُّ البَنان، ثابِتُ الجَنان، لهُ مَنظوماتٌ عَديدَة، فِي السِيرَة والفِقهِ والعَقيدة، قرأتُ عَليهِ مِنْها ما تَيَسَّر، وَأوْضَحَ لِي مِن غَوَامِضِها مَا تَعَسَّر.
وَبَعدَها اسْتأذنتُهُ للوَداعِ وَالفِراق، فَقال: لانفترّقَ إلاّ عَلى ذَواق.
ثمّ زُرتُ بَقيّة َ عُلماءِ فاس، وَهُم في العُلومِ وَالمَعَارِفِ مَراجعُ الناس، وَاسْتَنَرْتُ مِنْ سَنا بَرَكاتِهمْ بِسَنيِّ الأقباس، ومَلأتُ حَقائبي مِن ثِمارِ أفكارِهِم بما تُزري قيمتُهُ بأثمان ِالجَواهِرِ وَالْمَاس.
ثمّ قَصَدْتُ بَلدَة َ طَنجة، ذاتَِ الرَونَق ِ وَالبَهْجَة، وَهيَ أقدمُ مُدُن ِ المَغرب الأقْصى، ووصْفُ جَمالِها لايُستقصى، لكنْ يُؤخذ ُ عَليها صُعوبة ُ التَنَقُّل، مَعَ مَا هيَ عَليهِ مِنَ الجَمال، وَكأنَّما أدْرَكتْها عَينُ الكمال، فصَنَّفتُ في ذلكَ رسَالة ً لطيفة تصفُ مَا لاقيتُهُ في هذهِ البلدةِ المُنيفة، وَوَسَمتُها بعُنوانٍ يَدلُّ عَلى المُعَنْوَن، إذ ْ لَمْ أجِد أوفى منهُ وأبْيَن، وهُوَ (ذِكرُ المَتاعبِ وَالمَآسي، فيما لقِيتُهُ بطنجَة َمِنْ قِلّة الطكاسي) وقد جريتُ في استعمالِ كلمةِ (الطكاسي) على المشهورِ الشائِع، وَلمْ أتَحَرََّ فيه الفَصيحَ الناصِع، إيغالاً في التَنكيتِ والتَطريف، مَعَ كونِهِ أقربَ إلى أذواقِ العَصْريّينَ في مَقام التعريف، فلا تَنْحُ عَلَيّ باللَوم والتَثريب، وقد عَرَفْتَ ما فيه من التوجيهِ المُصيب.
وَفي هذه البَلدةِ الضاربَةِ الأعْراق، بتُراثِها الثمين ِ إلى أبعَدِ الآمادِ بالاتِّفاق، صَانَها اللهُ مِن عَبَثِ الشُطّارِ والسُرّاق، سُرِقَ هاتِفِي النَقّال، وَاتَّهَمْتُ بهِ البَقّال، فَانْقَطَعَ الاتّصال، وسَاءَتِ الأحْوال، وَفَقَدَني الصَحْبُ والخِلاّن، وَقَلِقَ عَلَيَّ الأهلُ والإخوان.
ثمّ لازمْتُ شَيخَنا البقالي، صَاحِبَ الدُرَر واللآلي، وهُوَ الآن يَدْلُفُ إلى المِئةِ مِن عُمُرِهِ المَيمُون، فَحَيَّ هَلا بهِ مِنْ عالِمٍ ثِقَةٍ ثَبْتٍ مَأمون، ومِن لطائفِ أحوالِه، وَعَجَائِبِ خِصالِه، أنَّه يَعِظ ُ العوامَّ بَينَ المَغربِ وَالعِشاء، وَبَعدَها يقدِّمُ لهُم العَشاء، يُذكِّرُهُم وَهُوَ واقفٌ مع بلوغِهِ غاية َ الهَرَم، وليس ذلكَ بمُستكثرٍ عَلى مَن اتَّقى اللهَ تعالى وَبحَبْلِهِ اعْتَصَم،
(وَإذا حَلَّتِ الهِدَايَة ُ قَلباً
نَشَطَتْ لِلْعِبَادَةِ الأعْضَاءُ)
¥