[مقامات هتاف القلم (مقامة الجمال)]
ـ[هتاف القلم]ــــــــ[03 - 02 - 2009, 05:40 م]ـ
سأتحفكم بين الفينة والفينة بمقامات تتكلم عن واقعنا، وتصف لنا حال مرابعنا، وربما تكون بأسلوب ساخر، وكم ترك الأول لآخر، وقد راعيت فيها سهولة العبارة، متجافيا عن الإلغاز والإشارة، فلم أتعمد ذكر الغريب، لأن المراد أن يقرأها كل حبيب، وهذه أولى هذه السلسلة:
المقامة النسائية
سرت في ليل داج، باحثاً في كل منهاج، عن مجلس عامر، أو أديب مسامر، فلما بلغ مني الجهد مبلغه، قلت: هذه ليلة مُسِغبة، فلما أردت أن أرجع إلى الدار، رأيت من بعيد ضوء نار، فأتيت إلى قوم جلوس، وحديثهم في خبر الحسان ووصف العروس، فقال أحدهم: الجمال كل الجمال في نساء المغرب، وذكر ما لهن من وصف مطرب، وجمال معجب،
وتشبب الثاني في نساء مصر، ووصف فيهن حسن القوام ودقة الخصر، ما يضع عنه اللوم والإصر،
وقال الثالث بدمع مهراق: أين أنتم من نساء العراق، ثم ذكر ما رآه في بغداد، من حسن ووداد، فأنشد بانت سعاد،
وتكلم الرابع، بطرف دامع، وكان قصير القامة، كبير الهامة، فقال: دونكم نساء اليمن، فأنا ثقة ومؤتمن، ولست أيضاً بالخب، فعليكم بنساء (إب)،
وقال الخامس، بصوت هامس: إن رمت حورية، فعليك بسورية،
وقال السادس وقد أشار بالبنان: انظر إلى نساء لبنان، عيون المها وظبية البان،
وقال الثامن: أنا لكم ضامن، خلف البحار حيث الدر الكامن، أعني نساء بني الأصفر، والمسك الأذفر، والثوب المعصفر، فإن كنت للحسناء تروم، فعليك بنساء الروم،
وقال التاسع: عندي الداوء الناجع، والحل النافع، عليكم بجارية من الحبشة، فإنها منعشة، وتحدوك كأنجشة، فلا تكثر المراء، وعليك بالسمراء،
أصابني كلامهم بالنعاس، فخفق الرأس، فلما غشاني النوم، التفت إلي القوم، وقالوا: ماذا تقول يا ضيف، بلا تحيّزٍ وحيف؟ فقلت: يا معشر الجلساء، أكثرتم من وصف النساء، وقد كره ذلك بعض السلف، وعده من الخوارم ومسقطات الشرف، ولكن ما دمنا قد ولجنا الباب، فسأميز القشر عن اللباب، وآتيكم بالرأي الصواب،
كل منكم ذكر الذي رآه، وما أعجبه وسر مرآه، وخذوها قاعدة، مضطردة وسائدة، وهي لكم فائدة، كل جمالٍ نسبي، فلا تكن بالغبي، فتقول مُطلِقاً هذه أجمل النساء، فإطلاق الحكم دون قيد فعل من أساء، فما من غادة مليحة، إلا ويوجد من تكون معها قبيحة،
والجمال أيضاً نسبي للأشخاص، وهي حقيقة ما منها مناص، فمن تكون جميلة في نظر زيد، تكون عند عمرو أمة تستحق الضرب والقيد، وهكذا يختلف الذوق، وهكذا الدنيا سوق، فقيس بن الملوح العامري، والذي صار في باب العشق كالسامري، كان يعشق ليلاه، ويقول: ويلاه، ومع هذا كانت ليلى جارية سوداء، تراه أنت كالداء، إن أدبرت تنفستَ الصعداء، ويراه حور الجنان، وحديقة ذات أفنان، فأطلق لحبه العنان،
ثم أراكم قد حصرتم الجمال في الأجساد، وقصرتموه على البياض والسواد، والجمال الحقيقي جمال الروح، وبهذا يقول كل نصوح، فإن الجمال الظاهر، والحسن الباهر، وما ترى من روعة المظاهر، إنما هو أيام ويزول، وما هو إلا لحظات ويحول، ويبقى بعدها الجمال الباطن، وما هو إلا در كامن، تزيده الأيام حسنا وجمالا، حتى يصير من الوفاء ألواناً وأشكالاً، تزوج الإمام أحمد، وهو العالم الممجد، بعوراء أختارها على أختاها الحسناء، فكانت حياته معه روضة غناء، فترحم عليها، وهو يحن إليها، فقال بنبرة الحزين، عشت معها عشرين، فما سمعت منها شكاة وأنين، وما اختلفنا في قضية، وكانت صابرة رضية، فعشت معها عيشة مرضية،
وما نفع الجمال الفاتن، وتلك المظاهر والمحاسن، ما لم يتوج بأخلاق، وإلا باء بالطلاق، فلو كانت المليحة عبلة، تعطيك كل يوم ألف قبلة، أو كانت الحسناء بثينة، ترى في صدرها درة ثمينة، أو كانت الغادة مية، تزري بكل فارسية ورمية، وكانت في أخلاقها كسجاح، لتلقيتها بالرماح، أو كانت في حالها كعناق، لسلبت روحها بالخناق،
فقال القوم، وقد تركوا الجدال واللوم: هذا هو القول الصحيح، وهذا هو الرأي الرجيح، فمن أنت يا ضيف؟ فقلت: خيال طيف، وتركت القوم، وقمت من النوم،