حفر قليلاً، ثم أبى إلاَّ أن يخرجَ، رغم أنّ الأوامر كانت تقضي بألاّ يغادرَ أحدٌ بغير هدًى، أبى إلاَّ هذا؛ فقد استبدَّ به القلقُ والجوعُ والعطشُ، ووحشةٌ للأهل، والرُّؤيا المضبَّبةُ التي تذكرها، أجاءته للخروج.
بعد قليلٍ، وفي عتمةِ ما بينَ المغرب والعشاء، كانت هناك يدانِ صلبتانِ تستندانِ على شفا حُفرةٍ تسترُها الحشائشُ، ورأسٌ يصَّعّدُ، ويدور، ويرْقُبُ في حذرٍ .. ألقَى نفسَه منها، و مضى يتلفَّت وهو منخفضٌ قليلاً، حتى خرج إلى صعيدٍ آمنٍ، ونَصَب عُودَه.
لم يذهب بعيداً كي يدرك ما حدث ويحدُثُ فوقَ الأرض، ثَمّةَ عمائرُ تهدَّمتْ لا يندفع الناس إليها، تلك أخبارٌ قديمةٌ إذاً، عمرُها يومٌ، وسياراتُ الإسعاف تضربُ أبواقها حولَه، والناس في هلعٍ، يَجْرون ويتدافعون تلقاءَ دخانٍ صاعدٍ من وسطِ البلدة، لضربةٍ حدثتْ للتّوِّ.
يتوجَّه مسرعاً لحارَتِه ... مضى مهموما في طريقه، ينظر للبلدة الصامدة المكتئبة، وملامحُ الظمأ واللوعة على الوجوه والبنايات. في حيِّه السكنيّ، أدخنةٌ تتصاعدُ من عدّة أسطُحٍ، وهنا مكانٌ تفوح منه رائحةُ البارود، يبدو أنه تعرض للقصفِ منذُ قليلٍ؛ لملمَ الرجالُ البقايا، ولم يبق إلا لُطَخُ الدم، والصمتُ العَبُوس، وأدخِنَةٌ سوداءُ تحمِلُها الرِّيحُ إلى السماء، ونحيبُ امرأةٍ ينفذُ من خلف النافذة المغلقة.
ينعطفُ في ممرٍّ جانبيٍّ بخطواتٍ مسرعةٍ وأنفاسٍ لاهثةٍ تجاهَ بيته، تجاه أحبَّائه الثلاثة. كان يمشي وجلاً يستشعرُ كارثةً، قلبُه يحدِّثه أنّ ثمةَ كارثةً قد وقعتْ، وعيناه تثرثرانِ بأنّ هذا النفثَ من الدُّخَان لعله يصعد من فوق بيته. وتقدَّم، ولما اقتربَ منه أحدُ الجيران، ووضع يدَهُ على كتفه ومضى، مادتْ به الأرضُ، ولم يستطعْ من صدمتهِ أنْ يتبيّنَ ماذا قال له هذا؟ بدا له الناسُ بعدها كأطيافٍ تمشي حولَه بحركةٍ مهتزّةٍ، وبدا كلامُهم مثلَ همهمةٍ غير واضحةٍ. هو الآن على رأس الحارَة، يدعو اللهَ أن يلهمَهُ الصّبر إذا ما كانَ هناك ضرٌّ نزل بأهله. بعدها كثرَتِ الأيادي التي تتزاحم على كتفه، وهو يشقُّ طريقَه بينهم، كأنّ كتفَيهِ صَحْفَةٌ تحت أيدٍ جائعةٍ. ولم يقدرْ إلاّ على أنْ يقول متوجِّساً قلقاً:
هل كلُّهم .. ؟
- نعم .. نعم.
- أَكُلُّهم؟!
- نعم .. نعم.
- إنّا لله وإنا إليه راجعون.
هذا بيتُه يستقبله حزيناً منكسراً، سافَرا وكأنّه قد شُقَّ جيبُه؛ تهدَّم جداره إلى الشارع، كان البيتُ يسأله باكياً: أين كنت؟!
فردَّ عليه معتذراً: كنتُ في واجبٍ.
بعينينِ ساخنتينِ مِن الصدْمة، أخذ ينظر لبيته وقد انكشفَ، يصعَدُ إلى شقّته بالطابق الثاني، ليس على سلَّم، بل على أنقاضِ الواجهة الّتي علَتْ فغطّتِ الطابقَ الأرضيّ كلَّهُ، ها هو كأنّه يصعَدُ إلى بيتٍ فوق ربوةٍ، يقِفُ على أوّلِ مملكتِه الصغيرةِ، فوق الطُّوب المتكسِّر، ينظرُ متأثراً إلى شقّته المنكشفة؛ سريرٌ صغيرٌ مذعورٌ قد انكسرتْ قائمةٌ من قوائمهِ الأربعةِ فمالَ إلى الجانب، وتلفازٌ قد اندلقتْ أحشاؤهُ، وإناءُ طعامٍ منكفئٌٌ وقد اختلط طبيخُه بالتراب. يستجمع رباطةَ جأشه، يدخل صامداً، إلى حُجرة النّوم، ينظرُ أسفلَ منهُ مغتمًّا، إلى شِلْوٍ من أشلاء امرأتهِ مستورٍ في قطعةٍ باقيةٍ من ثوبها المحترق. وبجانبِ السَّرير بزّازةُ رضيعٍ، يملؤها اللّبنُ. وما أوشكَ أنْ يستديرَ وينصرفَ، حتى رأى يدَ طفلتهِ ليِّنةً بيضاءَ، مبتورةً من المَرْفِق؛ تقبضُ كفُّها على ورقة إملاءٍ. كان الدّمُ على الصفحة يغطّي من حوافّها الأربَعِ. كان الدمُ عليها، وعبثُ الريح؛ الورقةُ ترفرفُ في اليدِ، مثلَ الراية، مثلَ جناحِ حمامةٍ. واشتدّتِ الرّيحُ شيئاً فشيئاً، كأنّها غضبٌ عتيقٌ مخزَّنٌ قد تفجَّرَ في سبتِ غزَّةَ، فأخذَتْ تهزُّ اليدَ أيضاً، هزَّةً مشهودةً، فاضطرب قلبُهُ.
مسحَ دمعَهُ بيدَيه، وقعد ليقرأ ما خطتَّه فيها بالقلم الرصاص .. هذا خطٌّ طفوليٌّ في منتصف السطر وأعلى الصفحة، لا يوجد إلاّ كلمتانِ، ومِن تحتِهما لم يسعِفْهَا الوقتُ لتكتب شيئاً أبداً، كانت قد كتبتْ: (واجبُ السَّبت).
لملمَ لحمَهُ المقصوفَ في كيسٍ واحتضنه، وهرولَ الناسُ المتجمعونَ أسفلَ تلَّةِ الأنقاض، وصعدوا إليه وهو يزأرُ كالأسد الجريحِ: وا بُنَيَّة .. وا بنيَّة .. واجبُ السبتِ ثقيل .. ثقيلٌ يا بنيَّة ... وأنا – والله - سأُنجزُه.
في الصُّبح، والصُّبحُ قريبٌ، ربطَ الحزامَ في رحلةٍ سماويَّةٍ، كيْ يَلْحَقَ بالصُّحبةِ.