وخرج، وصرف التوكيل عني، وعن الدار، وأخذ كتابي وأسبابي إليه.
فلما انصرف، قلت لغلماني: هذا الذي نراه في النوم، انظروا من وكل بنا؟ فقالوا: ما وكل بنا أحد.
فعجبت من ذلك عجبا شديدا، وما صليت العصر حتى عاد إلي جميع من حمله معه من المتصرفين والكتاب والجهابذة، وقالوا: أخذ خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة، وأطلقنا، فازداد عجبي.
فلما كان من الغد، باكرني مسلما، ورحت إليه في عشية ذلك اليوم مسلما عليه.
فأقمت على ذلك ثلاثين يوما، يغدو إلي، وأروح إليه، وربما غدوت أنا، وراح هو، وهداياه وألطافه تأتيني في كل يوم من الفاكهة، والثلج، والحيوان، والحلوى.
فلما كان بعد ثلاثين يوما، جاءني، فقال لي: قد عشقت مصر يا أبا أيوب، والله ما هي طيبة الهواء. ولا عذبة الماء، وإنما تطيب بالولاية والاكتساب، ولو دخلت إلى سر من رأى، لما أقمت إلا شهرا حتى تتقلد أجل الأعمال.
فقلت له: والله، ما أقمت إلا توقعا لأمرك في الخروج.
فقال: أعطني خط كاتبك، بأن عليه القيام بالحساب، وأخرج في حفظ الله، فأحضرت كاتبي، وأخذ خطه كما أراد، وتسلمه، وقال: اخرج في أي وقت شئت.
فخرجت من غد، فخرج هو وأمير البلد وخاصته، ووجوه أهله، فشيعوني إلى ظاهر البلد، وقال لي: تقيم في أول منزل على خمسة فراسخ، إلى أن أزيح علة قائد يصحبك إلى الرملة، فإن الطريق فاسد.
فاستوحشت من ذلك، وقلت: هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما أملكه، فيتمكن منه في ظاهر البلد، فيقبضه، ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة، ويحتج علي بكاتب يذكر أنه ورد عليه ثانيا.
فخرجت، وأقمت بالمرحلة التي أمر بها، مستسلما، متوقعا للشر، إلى أن رأيت أوائل عسكر مقبل من مصر.
فقلت: لعله القائد الذي يريد أن يصحبني، أو لعله الذي يريد أن يقبض علي به، فأمرت غلماني بمعرفة الخبر.
فقالوا: قد جاء أحمد بن خالد العامل بنفسه.
فلم أشك إلا أن البلاء قد ورد بوروده، فخرجت من مضربي، فلقيته وسلمت عليه، فلما جلس، قال: أخلونا، فلم أشك أنه للقبض علي، فطار عقلي، فقام من كان عندي، ولم يبق غيري وغيره.
فقال: أعلم أن أيامك لم تطل بمصر، ولا حظيت بكبير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في ولايتك فلم استجب إليه، إنما أخرت الإذن لك في الانصراف من أول الأمر إلى الآن، لأني تشاغلت بالفراغ لك منه، وقد حططت من الارتفاع، وزدت في النفقات، في كل سنة خمسة عشر ألف دينار، تكون للسنتين ثلاثين ألف دينار، وهو يقرب ولا يظهر، ويكون أيسر مما أردته مني ذلك الوقت، وقد تشاغلت به حتى جمعته لك، وهذا المال على البغال قد جئتك به، فتقدم إلى من يتسلمه.
فتقدمت بقبضه، وقبلت يده، وقلت: والله، قد فعلت يا سيدي ما لم تفعله البرامكة، فأنكر ذلك، وتقبض منه، وقبل يدي.
وقال: ها هنا شيء آخر أريد أن تقبله.
فقلت: وما هو؟ قال: خمسة آلاف دينار قد استحققتها من أرزاقي، فامتنعت من ذلك، وقلت: فيما تفضلت به كفاية.
ثم قال: وها هنا ألطاف من هدايا مصر، أحببت أن أصحبك إياها، فإنك تمضي إلى كتاب الدواوين ورؤساء الحضرة، فيقولون لك: وليت مصر، فأين نصيبنا من هداياها؟ ولم تطل أيامك، فتعد لهم ذلك، وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت.
وأخرج إلي درجا فيه ثبت جامع لكل شيء في الدنيا حسن طريف، جليل القدر، من ثياب دبيقي، وقصب، وخدم، وبغال، ودواب، وحمير، وفرش، وطيب، وجوهر، حتى أقلام ومداد، ما يكون قيمته مالا كثيرا.
فأمرت بتسلمه، وزدت في شكره.
فقال لي: يا سيدي، أنا مغرى بحب الفرش، وقد استعمل لي فرش بيت أرمني، وهو عشر مصليات بمخادها، ومساندها، ومساورها، ومطارحها، وبسطها، وهو مذهب، بطرز مذهبة، قد قام علي بخمسة آلاف دينار، على شدة احتياطي، وقد أهديته لك، فإن أهديته للوزير عبدك، وإن أهديته للخليفة ملكته به، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به، كان أحب إلي.
قال: وحمله، فما رأيت مثله قط، ولا سمحت نفسي بإهدائه إلى أحد، ولا استعماله، وما ابتذلت منه شيئا غير هذا الصدر ومسنده ومساوره، يوم إعذارك، أفتلومني على أن أقوم لهذا الرجل، يا بني؟ فقلت: لا والله يا أبت، ولا على ما هو أكثر من القيام، لو كان مستطاعا.
فكان أبي بعد ذلك، إذا صرف رجلا، عامله بكل جميل، ويقول: علمنا أحمد بن خالد، حسن الصرف، أحسن الله جزاءه.