[الذاتية في الأدب العربي (نماذج)]
ـ[الأسد]ــــــــ[15 - 11 - 2009, 07:12 م]ـ
يقول ابن زيدون:
ما على ظني باس ُ **** يجرح ُ الدهرٌ وياسو
ربما أشرف بالمرء **** على الآمال ياس ُ
وكذا الدهرُ إذا ما **** عز ناسٌ ذل ّ ناس
والملاحظ في هذه النبرة الحزينة الذاتية عند كثير من الشعراء يجدهم يحرضون على ضرب الأمثال، والتشبيهات الرائعة، لكي تكون أصدق تعبيراً.
ولن نكون مغالين إذ قلنا أنه لا يخلو ديوان شاعر من الشعراء من سمات ذاتية، يعالج من خلالها قضايا وموضوعات نفسية، فردية كانت أم جماعية، فبعض الشعراء خصوصاً القدامى والذين يمثلون لسان حال القبيلة نجد لديهم تلك النزعات الذاتية المشتركة والتي يقوم هذا الشاعر برسمها وتصويرها، بإعتباره الناطق الرسمي لتلك القبيلة، وفي عصرنا الحاضر نجد الكثير من الشعراء من يتأثرون بقضايا المسلمين الهامة، والتي هي مصدر قلقهم وأحزانهم، كما يجري الآن بالعراق، وفلسطين، وقد صوّر الشاعر عبد الرحمن العشماوي ذلك كثيراً، فهذا يمكن أن نعّده من الإتجاه الوجداني الذاتي، الذي يصّور خلجات النفس، ومشاعرها.
وأبو فراس الحمداني ذلك الشاعر العربي الأصيل، والفارس الأمير، والذي عرف بقوته وشجاعته، حتى كان يضرب به المثل، ويشبه بعنترة وعمرو بن أم كلثوم لم ينج من صعوبات حياته يوم أن وقع أسيراً في يد أعدائه حيث نقل إلى القسطنطينية التي ظل بها أربع سنوات يعاني آلام الأسر، وينتج فيها شعراً كثيراً يملؤه حنينه إلى وطنه سائلاً سيف الدولة أن يسرع إلى إنقاذه من آلام واقعة، ويخاطبه بعد أن بلغه أنه عاتب عليه يقول:
ولكنني راضٍ على كل حالةٍ **** ليعلم أي الحالتين سراب
وما زلت أرضى بالقليل محبة **** لديك وما دون الكثير حجاب
أمن بعد بذل النفس فما تريده **** أثاب بمر العتب حين أثاب
فليتك تحلو والحياة مريرة **** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر **** وبيني وبين العالمين خراب
إن هذه الأبيات يصور فيها الشاعر أحاسيس مريرة ومشاعر صادقة في إطار من الكبرياء والأنفة، وقد سار في معظم قصائده يعزف على هذا الوتر فيسجل حنينه واشتياقه إلى وطنه وأهله، فيتكلم بكلام المغترب، ويشعر بشعور الحزن والحنين، وقد صور ذلك في رائيته الجميلة:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر **** أما للهوى نهى ٌ عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة **** ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى **** وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر ُ
تكاد تضي النار بين جوانحي **** إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى **** ولا فرسي مهرٌ ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ**** فليس له بر يقيه ولا بحر
والشاعر يرسم صورة دقيقة غاية في الذاتية والواقعية، وهو يسقط من خلالها كل الأبعاد واقعة النفسي كما عاشه في عالمه الجديد بعيداً عن وطنه، فهو في حالٍ لا يحسد عليه، بعد أن كان الأمير الفارس، إذ تحول إلى الأسير المكبل على غير توقع منه أو انتظار، وعن غير ضعف منه أو تخاذل، من هنا أصبحت الدوافع النفسية شديدة في حرارتها، وتدفقها، مما جعل الشاعر يستطرد في عرضها في كثير من صور القصيدة ... .
ولو انتقلنا إلى العصر الحديث مثلاً فإنه تطالعنا ظاهرة أدبية تميزت بالتوهج الذاتي والتوقد الوجداني الحزين، هذه الظاهرة هي ظاهرة الاغتراب ونلخصها كثيراً لدى الشعراء المغتربين عن أوطانهم وأهلهم وأحبابهم خصوصاً شعراء المهجرين الجنوبي والشمالي، فقد نسجوا قصائد رائعة تنم عن إحساس حاد بالغربة، تحولو من خلالها إلى بلابل مغردة تشدو بروائع الأشعار المعبرة، وكان للحنين إلى الوطن وذكرياته نصيب ملحوظ في أشعارهم.
يقول المغترب اللبناني يوسف بري:
إليك الشعر أبعثه كتاباً **** فهات مع البريد لي الجوابا
غريب الدار لا يرضى سواها **** ويهواها وإن كانت خرابا
سألتك كيف أنت وكيف أهلي **** وأطلالُ طويتُ بها الشبابا
كما نجد عند البارودي آثاراً من ذلك عندما نفي إلى سرنديب بسيرلانكا
فقد نظم في المنفى أبياتاً وقصائد جميلة، تدلنا على إحساسه بالغرابة، ومعاناته من الأم المنفى، من ذلك مثلاً قوله يتشوق إلى الوطن، وهو في سرنديب:
فكيف أنساك بالمغيب ولي **** فيك فؤادٌ بالود مرتَهَنُ
ليت بريد الحمام يُخْبُرني **** عن أهل وُدِّي فلي بهم شجن
أصبحتُ من بعدهم بمضيعة ٍ **** تكثر فيها الهمومُ والإحسنُ
وقال في لوعة الهجرُ حرمته:
ما أطول الليل على الساهر **** أما لهذا الليل من آخرِ
أسمع في قلبي دبيب المنى **** وألمح الشبة في خاطري
ومن خلال هذه الجملة التي أوردناها من التي تمثل دافعاً وجدانياً واتجاهاً ذاتياً يتبين لنا أن الذاتية الشعرية إنما هي ميدان فسيح يتجول فيه كل من أراد رسم اللوحات الذاتية، والتصورات الداخلية النابعة من أعماق النفس الإنسانية، وكل ما كانت النبرة العاطفية متأثرة ًبشدة كل ما كان ذلك أجمل في صوغ الصورة الذاتية للحالة الشعورية.
وكما أسلفنا لم تكن الذاتية في الشعر العربي حديثة أم قديمة، وإنما هي مرتبطة بأصول الإنسان وبداياته الفطرية، كما أنها لم تكن قاصرة عند أغراض معينة كالحنين والغزل، أو الإحساس بالدونية، أونحو ذلك وإنما هي تعلو وتدنو في أغراض دون أغراض، حسب ما تمليه طبيعة النفس وما تبثه من شجون وأحزان، وقد سقنا بعض الأمثلة على ذلك للإستشهاد لا على سبيل الحصر، علماً بأن الذاتية كانت تأتي في الأشعار عرضاً ولم تكن تقصد غرضاً، فلم يكن الشعراء يتعمدون الخوض في غمار الأحزان والهموم وإنما كانت النفس هي التي تملي عليهم ذلك، وتمدهم به، إلا فيما كان عند بعض الصعاليك الذين خاضوا في هذا الإتجاه غرضاً لا عرضاً؛ وذلك لإثبات الذات، وتأكيد الكيان.
تحياتي / فهد
¥