[الأخلاق الكريمة تبعث على الأخلاق الكريمة.]
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[06 - 09 - 2009, 06:40 م]ـ
من كتاب المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي
حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى، وأبا الحسن الإيادي الكاتب، يقولان: إنهما سمعا عبيد الله بن سليمان، يقول: كنت بحضرة أبي، في ديوان الخراج بسر من رأى، وهو يتولاه - إذ ذاك - إذ دخل علينا أحمد بن خالد الصريفيني الكاتب، فقام له أبي قائما في مجلسه، وأقعده في صدره، وتشاغل به، ولم ينظر في عمل حتى نهض، ثم قام معه، وأمر غلمانه بالخروج بين يديه.
فاستعظمت أنا، وكل من في الديوان ذلك، لأن رسم أصحاب الدواوين، صغارهم وكبارهم، أن لا يقوموا في الديوان لأحد من خلق الله عز وجل، ممن يدخل إليهم.
وتبين ذلك أبي في وجهي، فقال لي: يا بني، إذا خلونا، فسلني عن السبب فيما عملته مع هذا الرجل.
قال: وكان أبي يأكل في الديوان، وينام فيه، ويعمل عشيا.
فلما جلسنا نأكل، لم أذكره، إلى أن رأيت الطعام قد كاد ينقضي، فقال لي: يا بني شغلك الطعام عن إذكاري بما قلت لك أن تذكرني به؟.
فقلت: لا، ولكن أردت أن يكون ذلك على خلوة.
فقال: يا بني، هذا وقت خلوة، ثم قال: أليس قد أنكرت، أنت والحاضرون، قيامي لأحمد بن خالد، في دخوله وخروجه، وما عاملته به؟.
فقلت: بلى.
قال: كان هذا يتقلد مصر، فصرفته عنها، وقد كانت طالت مدته فيها، فتتبعته، فوطئت آثار رجل لم أجد أجمل منه آثارا، ولا أعف عن أموال السلطان والرعية، ولا رأيت رعية لعامل أشكر من رعيته له.
وكان الحسين الخادم المعروف بعرق الموت صاحب البريد بمصر، من أصدق الناس له، وكان مع هذا من أبغض الناس، وأشدهم اضطرابا في أخلاقه، فلم أتعلق عليه بحجة.
ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة ولسنته التي هو فيها، ولم يستتمها لصرفي له عنها، ولم ينفذه إلى الديوان، فسمته أن يحط من الدخل، وأن يزيد في النفقات والأرزاق، ويكسر من البقايا، في كل سنة مائة ألف دينار، لآخذها لنفسي، فامتنع من ذلك، فأغلظت له، وتوعدته ونزلت معه إلى مائة ألف واحدة للسنتين، وحلفت بأيمان مؤكدة، أني لا أقنع منه بأقل منها.
فأقام على امتناعه، وقال: أنا لا أخون لنفسي، فكيف أخون لغيري، وأزيل ما قام به جاهي من العفاف؟ فقيدته وحبسته، فلم يجب، وأقام مقيدا في الحبس شهورا.
وكتب عرق الموت، صاحب البريد، إلى المتوكل يضرب علي ويحلف أن أموال مصر لا تفي بنفقتي ومؤونتي، ويصف أحمد بن خالد، ويذكر ميل الرعية إليه، وعفته.
فبينا أنا ذات يوم على المائدة آكل، إذ وردت علي رقعة أحمد بن خالد، يسألني استدعاءه لمهم يلقيه إلي، فلم أشك أنه قد غرض بالقيد والحبس، وقد عزم على الاستجابة لمرادي.
فلما غسلت يدي دعوته، فاستخلاني، فأخليته، فقال: أما آن لك يا سيدي أن ترق لي مما أنا فيه، من غير ذنب أذنبته إليك، ولا جرم، ولا قديم ذحل، ولا عداوة.
فقلت: أنت اخترت لنفسك هذا، ولو أجبتني إلى ما قد سمعت يميني عليه، لتخلصت، فاستجب لما أريد منك.
فأخذ يستعطفني، فجاءني ضد ما قدرته فيه، وغاظني، فشتمته، وقلت: هذا الأمر المهم الذي ذكرت في رقعتك أنك تريد أن تلقيه إلي هو أن تستعطفني، وتسخر مني، وتخدعني.
فقال: يا سيدي، فليس عندك الآن غير هذا؟ فقلت: لا.
فقال: إذا كان ليس غير هذا، فاقرأ يا سيدي هذا.
وأخرج إلي كتابا لطيفا مختوما في ربع قرطاس، ففضضته، فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه، إلي، بالانصراف، وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن خالد، والخروج إليه مما يلزمني، ورفع الحساب إليه، والامتثال لأمره.
فورد علي ذلك أقبح مورد، لقرب عهد الرجل بشتمي له، وأنه في الحال تحت مكارهي وحديدي، فأمسكت مبهوتا.
ولم ألبث أن دخل أمير البلد في أصحابه وغلمانه، فوكل بداري، وجميع ما أملكه، وبأصحابي، وغلماني، وجهابذتي، وكتابي، وجعلت أزحف من الصدر، حتى صرت بين يدي أحمد بن خالد وهو في قيوده.
فدعا أمير البلد بحداد، ففك قيوده، فمددت رجلي، ليوضع فيهما القيد، فقال لي: يا أبا أيوب، ضم أقدامك ووثب قائما، وقال لي: يا أبا أيوب: أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد، ولا منزل لك فيه، ولا صديق، ومعك حرم وحاشية كبيرة، وليس تسعك إلا هذه الدار - وكانت دار العمالة - وأنا أجد عدة مواضع، وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة خرجت، فأقم بمكانك.
¥