[معلقة الأعشى على مائدة الجن!]
ـ[جلمود]ــــــــ[25 - 09 - 2009, 06:17 م]ـ
السلام عليكم،
في ليلة من ليالي الشعر الساهرة ألقيتْ مقالاتٌ نقدية حول معلقة الأعشى في غرفة هتاف على برنامج البالتوك، فأخذتني الحمية بالعشق وألقيتُ قراءة نقدية لأول بيت من المعلقة (ودع هريرة إن الركب مرتحل ... ).
ومرت الليالي وبت أستغفر الله من تجرئي على الأعشى ومعلقته وبيته، وقد عزمتُ على ألا أعود لمثلها وإن بليت عظامي في رفاتي، حتى جاءني مسحل بن أثاثة شيطان الأعشى وملهمه:
ــ فألقى في روعي: أن سر بنا يا جلمود (أي: أكمل قراءتك لبقية المعلقة).
ــ فاستعذتُ ثلاثا وقلتُ همزةَ شيطان.
ــ فجاءني على هيئته شيخا مهيبا فأمرني ثلاثا: أن سر بنا يا جلمود.
ــ فاخذتني الرجفة حينا، فلما تمالكت بعض نفسي قلتُ: ولمَ المسير في المعلقة وأنت قائلها وملهمها وأعرف بقدرها مني!
ــ فقال: أو ما تعلم ما فعلتَ؟
ــ قلت: لا، والذي رفع السماء.
ــ فقال: نحن ــ معشر الجن ــ نفضل الشعر ونستحسنه بشيء يلقى في قلوبنا عند سماعنا للشعر، شيء يعرفه منا الفحل والشعرور، إلا إننا لا نستطيع وصفه أو بيانه، فلما قلت َ أنت يا جلمود ما قلتَه في أول بيت من معلقتي ــ هاجت الجن وماجت، وكادت تقوم بينهم فتنة عظيمة، حتى احتكموا إلى اثنين من شياطين الشعر وملهميه، وهما: لافظ بن لاحظ (شيطان امرئ القيس) و هاذر بن ماهر (شيطان النابغة الذبياني)، فقال الحكمان: لا نحكم حتى نسمع بقية قول جلمود في المعلقة كلها. فاختر لنفسك يا جلمود واحدة من اثنتين، إما أن أحملك إلى قومنا من الجن لتسمعهم قولك في المعلقة كلها، وإما أن تكمل ما بدأت في أرض الإنس وينزل عليك الحكمان أضيافا.
ــ فقلت: بل هنا في أرض الإنس والأنس، ولينزل علينا الحكمان أضيافا مكرمين في مرابع منتدانا ورياضه، وليحذر الجميع! فإني لا آمن جانبهما إذا غضبا.
يتبع ...
ـ[جلمود]ــــــــ[26 - 09 - 2009, 02:24 ص]ـ
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ ... وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
اللطيفة الأولى:
بيت بديع فريد معجز، وسر إعجازه أنه بيت الخاتمة، نعم هو بيت الخاتمة وليس أول القصيد، فالأعشى وضعه في نهاية القصيد وأخطأ من جعله أول القصيد، كيف ذلك! أقول لكم.
إن قصيدتنا قصيدة دائرية تشبه القصص الدائري الذي يصرح فيه الكاتب بالنهاية في أول القصة ثم يبدأ في استرجاع الأحداث عن طريقة تقنية الفلاش باك.
لقد بدأ الأعشى قصيدته وقصة حبه بالنهاية حيث رحلت عنه حبيبته وتركته كناقف حنظل، ثم أخذ في الأبيات التالية باستخدام الفلاش باك ليصف لنا محبوبته خلْقها وخلُقها، بل ويحكي لنا كيف أحبها وكيف كان يزورها ...
وبيت الأعشى هذا بيت بز به شعراء المعلقات؛ فكلهم يقفون على الدمن والأطلال ليبدؤوا في استرجاع الذكريات، انظر:
يقول لبيد: عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها*ِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
ويقول عنترة: هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ*أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
ويقول عبيد: أَقفَرَ مِن أَهلِهِ مَلحوبُ*فَالقُطَبِيّاتُ فَالذَنوبُ
ويقول طرفة: لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ*تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
ويقول زهير: أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ*بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
ويقول امرؤ القيس: قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ*بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
ويقول النابغة: يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ*أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
فشعراء المعلقات بدؤوا قصتهم وقصيدتهم عندما مروا على أطلال الحبيب، أما الأعشى فيبدأ من لحظة الفراق، وشتان ما بين البدء من لحظة الفراق وبين البدء من رسم دارس يجلب الذكريات، نقطة الانطلاق لدى الأعشى قوية مشجية مبكية محزنة، هذه القوة في الانطلاق ساعدت الأعشى على استحضار صورة المحبوبة في أبهى صورها فلا يزال قريب عهد بها، عكس المعلقات الأخرى التي بعُد أصحابها زمانا ومكانا عن محبوبتهم
¥