تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأنظر إلى سلالم البيت كأنها مشتركة في عظمة العقاد. ولكنها سلالم غير نظيفة وكئيبة، ولكن لأنها تؤدي إلى شقة الأستاذ لها دلالة ومعنى آخر. ووجدت باب الشقة مغلقا. هل أضرب الجرس وأوقظ الأستاذ. هل أظل واقفا أمام الشقة حتى أسمع صوتا داخلها فأدق الباب. هل أنتظر حتى يجيء أول زائر. هل أنزل وأقف في الشارع. لقد ذهبت مبكرا. ولكن لا تطاوعني نفسي أن أقف تحت أو فوق. ماذا لو انفتح الباب .. هل يغضب الأستاذ. أريد أن أراه غاضبا ماذا يفعل بواحد من معجبيه، واحد يضع العقاد فوق رأسه .. بل في رأسه في قلبه في حياته. العقاد إنه أعظم ما قرأت. العقاد شخصيا. كيف يكون هذا الرجل. قلبي يدق. أسندت ظهري للحائط حتى لا أقع. نزل رجل من الدور الأعلى قال: صباح الخير رددت عليه قال: دق الباب إنهم أيقاظ. دق الباب ..

ودققت الباب. وانفتح وكان السفرجي وأشار أن أدخل. ودخلت وجلست في صالون العقاد. ودارت بي الأرض. لم أر أي شيء لا في الصالون ولا في البيت ..

لثالث مرة: العقاد!

الآن مر ربع ساعة من الانتظار .. أستطيع أن أرى الأستاذ بوضوح. يوجد تمثال للأستاذ وتوجد لوحة غريبة. المقاعد دون المتوسط. الغرفة صغيرة جدا ..

وفجأة جاء الأستاذ مادا يده أهلا وسهلا. يا خبر الأستاذ العقاد شخصيا مادا يده مرحّبا. ويسألني من أين وماذا أفعل وماذا أدرس قلت: في قسم الفلسفة يا أستاذ. قال أعرف كل أساتذتك بعضهم يجيء هنا. الدكتور الأهواني والدكتور زكي نجيب محمود. أحسنهما زكي نجيب محمود .. وإن كان الأفضل أن أقول أحسنهم جميعا ..

وعرفت بعدُ أن العقاد كان على حق. وتمنيت أن يجيء أحد لينقذني من مواجهة العقاد وحدي. ولم تطل أمنيتي. جاء أحد تلامذة العقاد. نهض الأستاذ واقفا: أهلا يا مولانا .. أين أنت كيف حالك الآن! وبدأ الزميل يحكي. ورحت أنظر إلى العقاد. رأسه بديع وملامحه كأنه أحد آلهة الإغريق. والعقاد يُسمع باهتمام شديد. إذا تحدث .. الآن أراه بوضوح فهو يتكلم ويتراجع وصوته خفيض. صوت هادئ كأنه إذا تكلم تحس أن أفكاره هي التي لها صوت. وهو يحرك يديه. ويهز كتفيه. وإذا فرغ من الكلام أطبق شفتيه تماما كما يفعل المطربون الأوربيون. ويضحك الأستاذ. فإذا ضحك فتح فمه وتراجع في مقعده. وهو يضحك لما يقوله هو من نكت أو المفارقات اللغوية ..

الآن أراه أكثر. إنه يرتدي بيجاما قديمة وهناك بقعة على البنطلون. وإيه يعني. إنه بنطلون العقاد .. ثم إن الشمس نفسها فيها بقع .. وليس متزوجا فلا أحد يعتني به .. وهذا السفرجي النوبي أو الصعيدي العجوز لا يستطيع وحده أن يكنس ويمسح ويغسل ويكوي .. وللعقاد طاقية من نفس قماش البيجاما. تماما كما يظهرون في الأفلام الكوميدية .. ولاحظت أن العقاد يضع يده دائما على الجانب الأيسر من البطن .. إنه المصران الغليظ كما كتب في الرسالة. مسكين يا أستاذ ..

لرابع مرة: العقاد!

تخففت من الانبهار. ولكن بقي الإعجاب الشديد بالأستاذ. ولحسن حظي جاء الدكتور عبد العزيز الأهواني. وهو خبير في الأدب والفلسفة الإسبانية. ووقف العقاد كما هي العادة. وقال له: أهلا يا مولانا .. أين أنت الآن ..

وجاء ثالث ورابع والأستاذ يقف تحية لضيوفه وامتلأ الصالون. وغيرت رأيي. لقد كان الصالون كبيرا واسعا شاسعا. ونحن نملأ المكان والأستاذ يجلس على مقعد كبير. وكان لا بد أن يتحدث الأستاذ في الفلسفة. وتحدث وناقش الأهواني وأبدى العقاد اعتراضه على الذين قالوا إن الأدب الأوروبي لم يستفد من الفكر الأندلسي. وذكر العقاد أمثلة لهذا الأثر في الفلسفة وفي الأدب. ولم يعترف الدكتور الأهواني وإنما كان يقول: عظيم والله يا أستاذ .. الله يا أستاذ.

أنظر إلى ملابس الأستاذ إنها نظيفة تماما .. وقد غير الأستاذ ملابسه .. والطاقية وضعها على رأسه. وأحيانا يخلعها. ويمضي الأستاذ كأنه يقرأ في كتاب. وليس حديثا بين الأستاذ وتلامذته. يقول كما يكتب كما يذيع في الراديو.

ومن غير مناسبة ومن غير أية علاقة بما يقول الأستاذ تشجعت ولا أعرف إذا كنت الذي سألت أو هو انتظاري الطويل أو هو حرصي على أن يحدثني عن الذي أعرفه أكثر من كل الموجودين في الصالون. قلت: يا أستاذنا أنت ليه ضد الفلسفة الوجودية؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير