وأما التأسيس فهو ألف مد بينه وبين الروي حرف واحد متحرك يسمى الدخيل، وألف التأسيس تلتزم بعينها على العكس من الدخيل الذي يمكن أن يكون أي حرف صحيح من حروف المعجم، بلا ضرورة لالتزام حرف معين منها إلا من قبيل لزوم ما لا يلزم. وتسمى حركة الدخيل في القافية المؤسسة (الإشباع)، وأكثر ما تجيء هذه الحركة كسرة لا تكاد تعدوها إلى حركة غيرها، وقد قال المعري:" فإذا جاءت الضمة أو الفتحة فذلك هو المكروه، والضمة مع الكسرة أيسر لأنهما أختان، والفتحة معهما أشنع ". وبعضهم رأى أنه يمكن التوسع في مصطلح الإشباع وجعله يطلق على حركة ما قبل الروي المطلق المجرد من التأسيس أيضا، ومن ذلك ما أورده المعري في بيت للأخطل، قوله:
عَفا واسِطٌ من آلِ رَضوى فَنَبتَلُ ======= فمُجتَمَعُ الحَرَّين، فالصَبرُ أجمَلُ
" فتحة التاء في (نبتل) والميم في (أجمل) إشباع".
وهناك من الحركات اللازمة في القافية (الرَسّ) وهي الحركة التي تسبق الألف التي للتأسيس، وبالتالي فهي لا تتعدى الفتحة " وكان الجرمي يقول لا حاجة إلى ذكر الرَسّ لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحا ". وعلق المعري على هذا القول بأنه حسن.
بقي من الحركات التي تلتزم في القافية حركة ما قبل الروي المقيد وتسمى (التوجيه)، وقد أقر العروضيون اختلافها بين الكسر والضم لقرب ما بين هذي الصوتين ولكنهم لاحظوا أيضا أن الفتح يجيء معهما فعدوا مجيء الفتحة مع الكسرة والضمة سنادا ومن أمثلته قول رؤبه:
وقاتم الأعماق خاوي المخترَق
ألّف شتّى ليس بالراعي الحَمِق
ويرى ابن عبد ربه أن التوجيه " يكون مع الروي المطلق أو المقيد إذا لم يكن في القافية ردف ولا تأسيس " كما يرى أن اختلاف التوجيه في القافية المطلقة لا يعد من السناد كذلك. وذلك أيضا هو رأي القاضي أبي يعلى التنوخي ومثل لذلك بقوله: "والتوجيه في المطلق كحركة اللام في قول الشاعر، وهو زهير:
بانَ الخَليطُ ولم يأووا لِمن تَرَكوا ======= وزَوَّدوكَ اشتِياقاً أيَّةً سَلَكوا"
ونحن لا نرى في شاهدي المعري والتنوخي، والأول منهما في الإشباع في المجرد والثاني في التوجيه في المطلق، أي فارق يبرر انفراد كل منهما بمصطلح يخصه.
ومما سبق نرى أن الخليل، ومن جاءوا بعده، قد أكملوا جميعهم وصف كل موضع من مواضع القافية وبينوا ما يلتزم في كل منها وما لا يلتزم، غير أننا لم نجد أحدا منهم التفت إلى ما يكون عليه الحال لو أنه اجتمع في قصيدة واحدة أبيات بعضها يشتمل على التوجيه وبعضها يخلو منه؛ فهل يعد هذا عيبا؟ وماذا يمكن أن يسمى؟
لقد وقفت في كتاب للدكتور عبد الله عسيلان بعنوان "حماسة أبي تمام وشروحها" على اقتباس من مخطوطة شرح الحماسة لأبي الرضا الراوندي تعَقَّب فيه الاستراباذي لمخالفته بعض من سبقه من شراح الحماسة، وأظنه المرزوقي، في روايته بيتا على الضرورة من قول الراجز:
كأنّها والكُحل في مِروَدِها
تكحَلُ عَينَيها ببَعضِ جِلدِها
ونقل عن الاستراباذي بأنه قال: شدّد (مِروَدّ) كما شدّد الراجز:
تَعَرُّضَ المُهرةِ في الطِوَلِّ
ثم قال: "والذي رويناه بالتخفيف لا يلزم التشديد؛ لأن (مفتعلن) مطوي (مستفعلن) يجري في الرجز مجرى الأصل، وليس كذلك (الطِوَل) ّ لأنه لو ترك التشديدلاختل الوزن".
ويعقب أبو الرضا على ذلك ذاهبا إلى أنه لا بد من تشديد (المرود)، وإلا اختلت القافية؛ لأن ما قبل الدال من كل بيت ساكن، فلو خففت كان ما قبل الدال من (مرودها) متحركا وهذا لا يجوز، فأما الوزن فإنه لا يختل.
ومما يلفت النظر في هذا الصدد أن هناك عيبا في القوافي يسمى (التحريد) يعرّفونه بأنه اختلاف ضروب القصيدة، نحو قول بعضهم:
إذا أنتَ فضّلتَ امرأً ذا نَباهةٍ=====على ناقصٍ كان المديحُ من النَقصِ
ألم ترَ أن السيفَ ينقُصُ قَدرُه=====إذا قيلَ هذا السيفُ خيرٌ من العُصي
ولو تأملنا في هذا العيب لوجدنا أنه يشير إلى نفس الظاهرة المتمثلة في اجتماع قافيتين إحداهما بتوجيه والأخرى خالية منه، أو ما يمكن أن نعبر عنه بأنه اختلاف نوع الصوت الذي يسبق الروي؛ فهو في البيت الأول صوت صامت هو القاف، وفي الثاني حركة قصيرة هي الضمة، وبذلك اختلفت شروط القافية التي عبّر عنا الفارابي بقوله: " وكثير منهم يشترطون فيها مع ذلك تساوي نهايات أجزائها، وذلك إما أن تكون حروفا واحدة بأعيانها، أو حروفا ينطق بها في أزمان متساوية". والحروف التي ينطق بها في أزمان متساوية، ومعها الحركات القصيرة، هي في نظر الدارسين المحدثين، أنواع أربعة: الصوامت، وأشباه الصوامت، والحركات الطويلة، والحركات القصيرة.
ومن هنا فنحن نتفق مع الفارابي في قوله ونميل بذلك إلى تعريف القافية تعريفا جديدا والقول بأنها صوت الروي وما قد يليه من أصوات، مع نوع الصوت الذي يسبقه، ولنسمه توسعا في المصطلح، الردف. فإذا كان الردف حركة قصيرة، وكان ثاني صوت يسبقه ألفَ مدٍّ (تسمى التأسيس)، التزم هذان الصوتان بعينهما.
سليمان أبوستة
¥