ـ[د. عمر خلوف]ــــــــ[06 - 04 - 2009, 09:32 م]ـ
إنّهما في واقع الأمر وزنان منفصلان، متمايزان، خلَطَ بينهما العروضيون دون الشعراء، على الرغم من شعورهم الأكيد بالاختلاف والتباين.
فقد نبَّهَ معظمُهم إلى أن تحوّل (فاعلن) إلى (فعْلن) هو مما يُخالف أصولَ القواعد الخليلية، وأنّ ذلك حالةٌ شاذّةٌ يختصُّ بِها هذا البحر دونَ سواه!!
بل لقد حكَمَ معظمهم بشذوذ هذا البحر سالِمَ التفاعيل، وصحّته معتلاًّ!!
ونبّهَ آخرون إلى أنه لا يستعمل إلاّ مخبوناً أو مقطوعاً كما رأينا!!
يقول العروضي: "إنّ هذا الوزنَ قد لحِقَهُ فسادٌ في نفس بنائه، أوجَبَ [على الخليل] ردّه، وذلكَ أنه يجيءُ في حشْوِ أبياته (فعْلن) ساكنَ العين، ومثل هذا لا يقع إلاّ في الضرب ... فأما في حشو البيت فغير جائز، وما عُلِمَ في شيءٍ من أشعار العرب"، مخالفًا بذلك سائرَ أنواع الشعر كما يقول، ومشيرًا إلى أنه "لو كانَ يجيءُ على بناءٍ تامّ، فيكون كلّه (فاعلن فاعلن)، أو يجيء [على] (فعِلن) " لَما خالَفَ أنواعَ الشعر الأخرى "ولكنه قلَّ ما يجيء منه بيت إلاّ وأنتَ تجدُ فيه (فعْلن) ".
ولعلَّ في إطلاقِهِ اسمَ (الغريب) عليه إشارة واضحةٌ إلى استغرابه من هذه المخالفة.
ـ[د. عمر خلوف]ــــــــ[06 - 04 - 2009, 09:36 م]ـ
كما إن في إشارات المعرّي العروضية، ما يؤكد أنه كان يشعر بانفصال الوزنين، وإن لم يقل ذلك صراحة. يقول: "وقد ينقلب [المتقارب] إلى وزنٍ آخر لَمْ تستعمله العرب، مثل قوله:
أنتِ ياقوتةٌ عندنا في الرّضا=غيرُ مَقْلِيَّةٍ عندنا في الغضَبْ
يقول: "فهذا وزنٌ مهملٌ لَم تستعمله العرب".
ولكنه عندما أشار إلى الخبب قال: "الوزنُ الذي يُسمّى ركض الخيل، وزنٌ ركيك"، "ضَعُفَ وهجَرَتْهُ الفحول في الجاهلية والإسلام، وربما تكلّفه بعض الشعراء كما قال:
أوَقفْتَ على طَلَلٍ طرَباً=فشَجاكَ وأحزَنَكَ الطّلَلُ
ويقول الزنجاني: "وأنشدوا في تمامِهِ:
يا بَني عامِرٍ قدْ تجمّعْتُمُ=ثمَّ لمْ تدفعوا [الضَّيْمَ] إذْ قمْتُمُ
ولعلّه مصنوع؛ فإنّ العرب لم تستعمله تامّاً، بل جميعُ أجزائه يجيءُ إمّا على (فعِلن) مخبوناً ... وإمّا على (فعْلن) مقطوعاً ... أو يجيءُ بعضُ أجزائه مخبوناً، وبعضُها مقطوعاً"!!
ـ[د. عمر خلوف]ــــــــ[07 - 04 - 2009, 06:18 م]ـ
ولعلّ أول من فصَل المتداركَ عن الخبب -من القدماء كما مرّ- كان ابن الفرخان (-ق6)، الذي جعلَ الخببَ جنساً قائماً بذاته، يقوم على (فعِلن) لا غير، والمتداركَ جنساً قائماً بذاته، يقوم على (فاعلن) لا غير، وإن لم يذكره باسمه!
في حين رفض القرطاجنّي (-684هـ) أن يكون للمتدارك وجودٌ أصْلاً، لِما فيه من تنافرٍ وثقل، ببناء وزنه "على أجزاءَ كلُّها يقع الثقيل [يقصد الوتد] في نِهايته، والخفيف في صدره". فكأنه يميل إلى كون المتدارك الذي على (فاعلن) بحرًا مهملاً. بينما أقرّ (الخبَبَ) بحراً قائماً بذاته، ولا علاقة له بالمتدارك، مقترحاً تقطيعَه على (مُتَفاعِلَتُن ///ه///ه)، كما رأينا.
ولم يجد عمل ابن الفرخان، ولا اقتراح القرطاجني صدى أو استجابةً مناسبة ممن جاءَ بعدهما، حتى جاء العصر الحديث، وزاد اهتمام الشعراء بِهذين البحرين، فبدأت أصوات العروضيين والشعراء تُنادي مرّةً أخرى بفصل الخبب عن المتدارك.
فأشار د. النويهي إلى أن المتداركَ "ينقسمُ إلى قسمين عظيمين، يكادُ كلّ منهما أن يكونَ بحرًا مستقلاًّ".
كما أشارَ د. أبو ديب إلى أنّ "ثَمّةَ تشكلاً إيقاعيّاً في الشعر العربي قد تتألف الوحدة الإيقاعية فيه من نواتين من النوع (فا)، [يعني فعْلن]، وقد تكون جميع وحداته من هذا الشكل، أو يكون عددٌ منها من الشكل (///ه). [و] بِهذه الطريقة نُميِّز هذا التشكل عن المتدارك [الذي على فاعلن] ".
ويقول عبد الحميد الراضي عن المتدارك: "وهو بحرٌ رتيبٌ هادئٌ حينَ تسْلَمُ أجزاؤه ويأتي على (فاعلن فاعلن ... )، ويكاد يكون حينئذٍ نوعاً خاصّاً لا صلةَ له بالمُحْدَثِ المخبون أو المقطوع الأجزاء" والذي يُحدِثُ "شيئًا من التدفّقِ الصّخب". "وهذا الفرق بين النوعين من الوضوح بحيث لا يمكن أن يستسيغَ الذوقُ بيتًا يختلفُ شطراه بين هذا النوع وذاك".
وفي حديثه عن المتدارك، يتساءل عبد الصاحب المختار متعجّباً: "وأينَ هذا الوزن من دقّ الناقوس أو الخبب". وهو يصرّح في مكانٍ آخر بعدم وجود علاقةٍ ما بين المتدارك والخبب.
وبعد أن لاحظَ د. علي يونس عدم اجتماع (فعْلن) مع (فاعلن) في المتدارك قال: "فالأحرى أن نجعلَ الوزنَ المبنيَّ على (فعِلن و فعْلن) مستقلاًّ عن الوزن المكوّن من (فاعلن) ".
ولعلَّ د. أحمد مستجير هو أول المحدثين الذينَ فصلوا -عمليًّا- بين هذين الوزنين، حيث أكّد خطأَ مَنْ ظنّ أن الخبب تحويرٌ للمتدارك، وإنما "لكلِّ بحرٍ هويته الموسيقية"، "والفارق بينهما واسع". ولذلك فقد عرَضَ للمتدارك أولاً بحراً خليليّاً يتساوق مع البحور الأخرى في تشكله وزحافه وعلله، ثم عرَضَ للخبب بحراً غير خليليّ، وحْدَتُهُ السبب وليس التفعيلة.