- غيوم: عرض السيد كبانجا جنيهاً واحداً فقط في اليوم الواحد مع وجبة غداء (إنه بخيل جداً) .. وأنت بحاجة إلى ستة جنيهات لشراء البطاريات .. وقد عرضت عليه أن تواصل العمل اليومي حتى منتصف الليل في طلاء البيت من الخارج بالدهان .. وتصليح الأسوار المحطمة، وجلب الحطب من آخر المزرعة، وتشرف على نقل الماء من البئر إلى البركة التي خلف البيت، مقابل جنيه آخر ووجبة عشاء وتبيت عندهم في غرفة الحارس على مدخل المزرعة. وبهذا يمكنك جمع قيمة البطاريات في ثلاثة أيام وست ساعات وخمسين دقيقة وسبع عشرة ثانية، ثم انفجرت بالضحك من جديد .. تحاول تهدأة توتره وحزنه.
إلا أن كريم أشاح عنها بوجهه والأسى والإحساس بطعم المهانة والصّغَار يملأ قلبه .. !!
كيف تحولت حياته فجأة من حال ترف ونعيم إلى فقر ومسغبة؟؟؟ ثم تجمعت في مقلته قطرات من دمع حار حبسها مكانها فلم تنزل، وكأنه أقسم عليها أن تبقى ثَمَّ. و سدد نظره باتجاه الجبال العالية يخفي لوعته وحزنه عن غيوم، وصمت طويلاً يفكر.
أحس بدفء يد غيوم وهي تتسلل إلى يده وقد أمسكت بها وأطبقت عليها بين كفيها في حنان وعطف ووضعتها على خدها، ثم انسحبت من أمامه بهدوء بعد أن وعدته أن تعود لزيارته صباح الغد.
* * * * * * * * * *
قضى كريم ليلته الأولى يحاول التعرف على محتويات غرفته الجديدة المتواضعة، ثم بدأ يتجول في المزرعة ومرافقها، ويقوم بجولات تفقدية متتابعة حول البيت الكبير .. تارة يقف عند حظيرة الدواجن يتوعد الدجاج بعقاب قاس ٍ إن لم يمنحنه عدداً جيداً من البيضات في صباح الغد ..
وتارة يمر بقرب البقرات يصافحهن بحركات ضاحكة ويلقي عليهن خطاباً في التنظيم والإدارة، ويعرفهن بمديرهن الجديد ..
وتارة يجر رجليه وسط الظلام الحالك بين البئر والبركة يتتبع مجرى الماء الذي صمم بينهما بطريقة انسيابية فريدة. حتى إذا تأخر الوقت، أطلت الخادمة برأسها من إحدى النوافذ وأخذت تناديه بصوت مرتفع وبلغة لم يفهم منها شيئاً على الإطلاق، غير أنه عرف أنه هو المقصود وأن موعد تسليمه العشاء قد حان.
قام من مكانه يركض باتجاه النافذة وتناول طعامه واتجه به نحو غرفته آخر المزرعة ودخل وأغلق الباب وترك النافذة مفتوحة لبعض الهواء، ثم انكب على الأكل بشهية مفتوحة.
هناك في القرية لم تكن غيوم تستطيع أن تبتلع عشاءها براحة وهناء، وهي تعلم حال كريم وحاجته إلى الطعام الجيد، فكانت تترك له شيئاً من طعامها بشكل مقصود دون أن تلحظ أمها ذلك، وقد أضمرت في نفسها رغبة قوية أن توصل إليه طعاماً مهما كلفها الأمر رغم بعد المسافة وتأخر الوقت ... كانت تتصرف كما وكأنها وقعت تحت سيطرة قوة خفية قاهرة تملي عليها كل شيء .. كل شيء.
وحيث إن اليوم الثالث قد مضى ولم يُبد (إبن الحوت) حتى الآن أي رغبة صريحة بالزواج من غيوم، وعقله لا يزال مشغولاً بالرحيل، فإن أم غيوم قد كفت عن سؤالها عن أحواله .. وكأنها اطمأنت الآن أن أهل القرية لن يطالبوها ببقاء غيوم على الشاطئ بعد اليوم الرابع.!!!
هكذا تقضي طقوسهم الغريبة (إذا لم يفصح إبن الحوت عن رغبته من تلقاء نفسه قبل انقضاء اليوم الثالث؛ فإن العروس تصبح في حل من إلزامية الزواج به .. وتكون بعد ذلك حرة في قرارها، حرة في خروجها ودخولها .. حرة في كل شيء) إنها لطقوس غريبة تلك التي تحيط بغيوم.
وبعد أن تأكدت من نوم أمها تسللت بكل خفة وبراعة من نافذة غرفتها دون أن تشعر بها أمها، واتجهت نحو المزرعة وسط الظلام الحالك.
وصلت هناك وكريم قد فرغ للتو من تناول طعامه الذي لم يكن أعجبه، ولم يكن أشبعه على أية حال.
طرقت الباب ثم وضعت الطعام واختفت فوراً بين الأشجار وابتلعها الظلام من جديد قبل أن يفتح كريم الباب .. وعادت إلى غرفتها في تحدٍ صارخ وعنيد في وجه التاريخ.
في الصباح الباكر، استيقظ كريم على صوت الخادمة وهي تطرق عليه الباب وتطلب منه البدء بالعمل بعد أن يتناول إفطاره الذي وضعته بالباب.
تناول إفطاره على عجل ثم توجه نحو حظيرة الدجاج وبدأ يومه الشاق.
أما غيوم، فقد كانت تبحث عن فرصة مناسبة للتحدث مع رئيس الشرطة حول مولد الكهرباء لعلها أن تقنعه أن يعيرها إياه .. و إلا فإنها ستخطط لاستعارته بالقوة إذا توجب ذلك .. كل شيء بات في نظرها يهون مادام أن ذلك يرضي كريم، ويحقق له رغبته ..
هكذا كانت مشاعرها تملي عليها .. تحقيق كل أمر يحتاجه ابن الحوت هذا حتى لو لزم الأمر ابتعاده عنها إلى الأبد ..
يكفيها لو أنها فعلت ذلك، أنها ستظل تتذكر جيداً أنها لم ترفض له طلباً على الإطلاق ..
يكفيها أنها لو فعلت ذلك حقاً، تكون قد ضحت بكريم من أجل كريم ..
يكفيها أيضاً لو أنها فعلت ذلك، تكون قد نجحت في زرع البسمة والأمل في قلبه بعودته إلى أهله ووطنه .. ولو على حساب قلبها ....
لكنها تعلم يقيناً أنهم لو أخذوه بعيداً عنها .... فإنهم سيأخذونها هي الأخرى بعيداً عنه إلى الأبد ..
لكن ....
هناك في مكان ما تحت الأرض.
* * * * * * * *
¥