تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن تقديم مستويات اللاوعي (ما قبل الكلام) لا يمكن أن يقدم في قالب محدد، وبذلك ينطلق تيار الوعي مستقلا عن تطور الحدث، ومعنى ذلك أن تطرح الحبكة جانبا، وبالرغم من ذلك يُفرض على هذا التيار المضطرب نوع من القالب، لتنظيم مواده وبالتالي كي يتم تفاعل المتلقي معه، لذلك نجد فيه تمسكا بالوحدات الثلاث الكلاسية التي تمسكت بها الرواية التقليدية (الزمان والمكان والحدث) وتمسكا بالبناء الموسيقي والبناء الرمزي المعقد.

دور المتلقي:

يحاول الروائي في الرواية الحديثة أن يبتعد عن تقديم الخبر للمتلقي، ليريه أو بالأحرى ليشركه في فضاء الرواية، وبذلك لم يعد المتلقي يستقبل عالما متكاملا مغلقا على نفسه، بل على النقيض إنه يحاوره، ويطلب منه أن يسهم في عملية الخلق وأن يخترع بدوره العمل الذي يقرأ، فيكون مشاركا في معطياته لخلق انسجام وتفاعل بين الفضاء المتخيل وعالمه الذي يعايشه، وبذلك يسهم في خلق عمل أدبي ينسجم وفق تصوراته، ويتعلم في الوقت نفسه أن يخلق حياته من جديد.

موقفنا من الرواية الحديثة:

إن الرواية الحديثة ابنة مجتمع قد سبقنا في جميع المجالات، فهي ابنة مراحل طويلة من التطور، في حين لم يعرف العرب هذا الفن إلا مع بدايات القرن العشرين تقريبا، وبذلك تكون الرواية الغربية قد سبقتنا بأكثر من مئتي سنة، لهذا لا يمكننا تجاهل هذا الفارق الزمني، الذي يحمل معه تطورا علميا، وظروفا اجتماعية واقتصادية وسياسية تنعكس بصورة أو بأخرى على الإنتاج الأدبي، لذلك من البديهي أن نقدم إبداعا ينطلق من ظروفنا، لأن أي شكل أدبي لا بد أن يكون منسجما مع إمكانات المتلقي، دون أن يعني ذلك تدني المستوى الفني، أو إلغاء لقدرات الكاتب الإبداعية التي يتوجب عليه تقديم الجديد والممتع والمفيد دائما.

إذا حين نستورد شكلا فنيا لا بد أن نكون حذرين لأن المتلقي العربي يختلف عن المتلقي الغربي، ليس في الإرث الأدبي فقط، وإنما في ظروفه، مما ينعكس على طريقة تفاعله مع العمل الأدبي، صحيح أن التأثر أمر لا بد منه، خاصة في مجال سبقنا إليه الغربيون، لكن هذا التأثر لا يعني تقليدا، وإنما تأثرا واعيا ومتزنا، يستفيد من إنجازاته دون أن تستعبده هذه الإنجازات، وبذلك يمكن تقديم أدب منسجم مع ظروف مجتمعنا وهموم حياتنا، فيضمن تفاعل المتلقي العربي.

إذا إغناء التجربة الروائية لا يمكن أن يتم بالتقليد، وإنما بالاستفادة من الآخر والتعلم منه دون الاكتفاء بذلك، لأن المبدع الحقيقي يضع في اعتباره المتلقي الذي يتوجه إليه أولا، فيحاول أن يخاطبه بلغة يتفاعل معها، ويدهش لها، فتمتعه، عندئذ، يبدو شريكا معه، يضفي على العمل الأدبي الكثير من ذاته.

إننا نعتقد أن المبدع الحقيقي هو الذي يشغله الإبداع، بالقدر الذي يشغله هم الإنسان والوطن، لذلك يشغله كيفية توصيل هذا الإبداع إلى متلقيه أولا ثم إلى المتلقي العالمي ثانيا، لهذا يحاول بعض الكتاب أن يكتبوا بأسلوب الآخر ظنا منهم أنهم ينالون رضاه وجوائزه، ناسين أن هذا الآخر لن يعجبه إلا ما ينطق بخصوصيته، أي يتمتع بمحلية تكسبه نكهة خاصة، وتمده بجماليات مختلفة عن جمالياته، لأنها نابعة من بيئة بعيدة عن بيئته، وعن ذات تختلف عن ذاته، ينطق بأسلوبه الخاص، الذي يمتلك ملامح عامة مشتركة بينه وبين الآخر، لكنه يكتسب سمات خاصة تجعل إبداعه متميزا، يجذب الآخرين إليه، بل يطلعهم على أساليب جديدة، كما يطلعهم على عوالم خاصة، تهبها هوية متميزة، وبالتالي تلقى إقبالا لما تملكه من هذه السمات المتفردة.

سنتوقف عند نموذج من تأثر الرواية العربية، بأسلوب " الرواية الحديثة" وهو رواية "ما تبقى لكم" للشهيد غسان كنفاني الذي تأثر برواية وليم فوكنر "الصخب والعنف" بطريقته الخاصة، التي تمزج التأثر الأسلوبي بالابتكار النابع من خصوصية الهم الوطني والإنساني.

رواية وليم فوكنر "الصخب والعنف"

سنبدأ بالحديث عن رواية فوكنر، لنبين أهم ملامحها، وذلك بعد أن نعرّف بالروائي تعريفا سريعا.

نبذة عن حياة وليم فوكنر:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير