ولو تأملنا المؤثرات الأدبية في هذه الرواية لوجدناها متأثرة بالاتجاهات الأسلوبية التي شاعت بين العشرينيات والثلاثينات من هذا القرن، وهي فترة من أهم الفترات وأخصبها في تاريخ الرواية، لا لظهور عدد من الروائيين الكبار فيها فحسب، بل لكثرة التجارب، ونجاح الكثير منها في فن القصة وغيره، ففي هذه الفترة لمع اسم شعراء أثروا في تغيير أشكال الأدب لا في الشعر فقط بل في النثر أيضا (إزرا باوند، و ت. س. إليوت) بالإضافة إلى منجزات روائية، خاصة في الرواية الحديثة، مثل رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، "ويوليسيز" لجيمس جويس، حيث أعطي اللاشعور أهمية قصوى.
ولو توقفنا عند عنوان الرواية "الصخب والعنف" للاحظنا أنه قد أخذ من مقطع في مسرحية شكسبير "مكبث" على عادة الروائيين الحداثيين الذين يعمدون في بناء رواياتهم على أساطير قديمة، أو مقاطع مسرحية يونانية أو غير ذلك من التراث الأدبي والفكري العالمي. (7)
وفوكنر لم يكتف بأن يأخذ العنوان من مسرحية شكسبير، وإنما حاول أن يجسد في روايته إحدى أفكار شكسبير التي وردت في المسرحية عبر شخصية (بنجامين) المعتوه.
"غدا، وغدا، وغدا،
وكل غد يزحف بهذه الخطى يوما إثر يوم،
حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب،
وكل أماسنا قد أنارت للحمقى المساكين
الطريق إلى الموت والتراب. ألا انطفئي يا شمعة وجيزة!
ما الحياة إلا ظل يمشي، ممثل مسكين
يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح،
ثم لا يسمعه أحد: إنها حكاية
يحكيها معتوه ملؤها الصخب والعنف،
ولا تعني أي شيء (8)
وبذلك تبدو لنا رواية "الصخب والعنف" حكاية تضطرم بالحياة كما تضطرم بالموت، ولاشك أن أي تلخيص لها، سيؤدي إلى خلخلة ذلك الفضاء الفني الذي أقامه فوكنر، ولكن لحسن الحظ أن المؤلف نفسه قدّم لمتلقي روايته ملحقا، وضع كمقدمة في الطبعات الحديثة، شرح فيه أهم الحوادث، وعرّف بأهم الشخصيات، وإلا لن يكون تلخيص الرواية سهلا على الإطلاق.
تحكي رواية "الصخب والعنف" عن رابطة الدم والوراثة وتجسد علاقات عائلية بالغة الاضطراب، إذ تقدم لنا حكاية بيت عظيم في حالة انهيار، فعائلة (كومبسون) التي أنجبت حاكما وجنرالا، أصبح لها وضع شبه أرستقراطي في عالم (جفرسون) وقد اشترى أحد أجداد الأسرة ميلا مربعا من الهنود الحمر (ميل كومبسون) الذي كوّن فيما بعد جزءا كبيرا من بلدة جفرسون، والرواية تحكي عن عائلة عريقة كان أحد أجدادها جنرالا عظيما، وهي تتناول البقية الضعيفة من آخر أجيال هذه العائلة، وأفرادها هم: (كونتن) الذي انتحر، وكادي (كاندس) التي أعلنت ثورتها على القيمالأصيلة ومرّغت شرفها في أحضان الخطيئة، لذلك تعيش منفية عن البيت، أما (جاسن) فقد أصبح تاجرا صغيرا بلا إحساس، و بنجامين (بنجي) الأبله، والوالدان: أب كثير المواعظ، منعدم الفعالية، والأم كثيرة الشكوى، تعاني من حالات كآبة لا سبب لها، وهما يصنعان جوا بائسا للعائلة، ولا ينسى الكاتب عامل الوراثة الذي يدفع الأبناء إلى دروبهم الصعبة المرعبة.
إن الأحداث في هذه الرواية لا تتبع التسلسل الزمني، وبذلك بات "تشظي الزمن" أحد العوائق الرئيسية في فهم الرواية، واستيعاب بنائها، لذلك على المتلقي أن يتعامل معها بتأن وصبر، حتى تتعود العين والعقل على خصائص بنائها الفني، فهي حين تقرأ بطريقة صحيحة قادرة على منحنا إثراء غير عادي، كما أنها تجعل القارئ يستغرق في تلك العملية الشديدة الإثارة، وهي عملية الخلق الفني على حد قول جبرا إبراهيم جبرا.
نلمح في هذه الرواية إسقاطا لتاريخ أسرة المؤلف على الرواية، فقد كان فوكنر ينتمي إلى أسرة غنية في الماضي ثم عاشت على الكفاف، لهذا سينتهي الأمر بعائلة (كومبسون) إلى بيع الأرض ثم بيع المنزل، وتحويله إلى فندق صغير، والآن لنتوقف عند شخصياته في هذه الروائية:
¥