تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإنه لمن المناسب إلى حد العذاب أن تستخدمها لتكسب النهاية المنطقية الحمقاء لاختبارات الإنسان جميعها، والتي لن تنسجم مع حاجاتك الشخصية أكثر مما انسجمت مع حاجات جدك أو أبيه، إني أعطيك إياها لا لكي تذكر الزمن بل لكي تنساه بين آونة وأخرى، فلا تنفق كل ما لك من نفس محاولا أن تقهر الزمن، لأن ما من معركة ربحها أحد ... " (10)

أمام هذا الإحساس الضاغط بالزمن، لابد أن يتجسد أمامه العبث، خاصة حين تنهار قيم الشرف التي يؤمن بها، هذه القيم التي تجعل للحياة معنى، يراه متجاوبا مع مغزى الوجود الإنساني، لهذا نجد الشخصية (في الفصل الثاني) في آخر يوم لها بعد أن أزمعت على الانتحار، وقد استطعنا أن نتابع كونتن، عبر تدفق تيار وعيه، فنتعرف على أفكاره، ذكرياته خاصة مع أخته، وما حدث له مع الطفلة الإيطالية الضائعة وكيف تعرض لإساءة الظن من قبل أخيها، كما تعرفنا على ملامح من علاقته مع فتاة إيطالية، وكما يقول جبرا إبراهيم جبرا "والمعجزة الكتابية هنا هي في الطريقة التي يعرض فيها المؤلف أحيانا ثلاث طبقات من الوعي معا، ويحمل القارئ زمنيا، جيئة وارتدادا بينها، ويبقيه دوما على أكثر من مستوى زمني واحد، في طفرات تجعل للحدث الآتي متوازيات من الأماسي الماضيات تتواشج به عن مغزى أو عبث." (11) وقد سيطرت على الشخصية فكرة الشرف، إلى درجة تبدو جزءا من أحلام كونتن وتهيؤاته، وأوهامه الفظيعة التي ينفر منها كل الناس، إنه يريد الحفاظ على جسد أخته بأية صورة من الصور حتى بتخيل (الزنى بالمحرمات) ولهذا بدا عاشقا للموت لأنه لم يستطع حماية شرف أخته، التي انجرفت وراء الأفكار الحديثة التي تركز على الحرية الجسدية والعلاقات المادية ولا تعير اهتماما للقيم الإنسانية، فرأى عندئذ القيم العليا للأسرة منهارة أمام زحف القيم المادية التي هي قيم الشمال المنتصر، على قيم الجنوب المنهزمة.

جاسن: تاجر صغير، يعدّ خير تجسيد لزحف القيم المادية على الأسرة، لذلك نجده يرتكب كل الموبقات فيسرق أمه، كما يسرق أخته التي كانت ترسل لابنتها (التي أسمتها باسم أخيها: كونتن) مبلغا شهريا من المال، يراكم المال، يخصي أخاه بنجي ويضعه في مصحة للأمراض العقلية، يعامل الخدم الزنوج معاملة قاسية، يبيع البيت، يعاشر مومسا ... حتى الزمن ابتعد عن تلك الفكرة التجريدية المأساوية التي وجدناها لدى أخيه (كونتن) ليصبح زمن التقويم (روزنامة) التي تحدد مواعيد قبض المال أو دفعه، أو لتدل على مواعيد فتح دكانه أو إغلاقه.

إنه إنسان مجرد من العواطف، لذلك حين ينتحر أخوه (كونتن) لا يحزن عليه، وإنما يحزن على النفقات المالية التي أنفقت عليه، وعلى الأرض التي بيعت من أجل تعليمه، إنه يتاجر بكل شيء حتى إنه يطلب من أخته (التي يراها عاهرة) مالا ثمنا لرؤية ابنتها، وهو مع كل ذلك يهتم بكلام الناس لهذا لا يسمح لأخته أن تدخل دكانه أمام الناس!! لكنه يسمح لنفسه بمعاشرة إحدى المومسات! إنه رجل التناقضات يضمر القذارة ويحاول أن يظهر أمام الناس بمظهر الرجل الشريف.

في هذا الفصل يبدو لنا العالم الداخلي أكثر انتظاما، إنه مجموعة ذكريات تقوم في معظمها على الحوار بينه وبين أخته وبينه وبين أمه ثم بينه وبين الخادمة دلزي، فيبدو مجموعة من المشاهد الحوارية، مما يجعله قريبا من السيناريو.

وقد امتدت هذه الخاصية إلى الفصل الرابع الذي وجدناه مخصصا للخادمة الزنجية (دلزي) وإن بدا لنا هذا الفصل أكثر اقترابا من الرواية التقليدية لاعتماده السرد والحوار، وفي هذا الفصل نلمح تعاطف المؤلف مع معاناة الزنوج، فيسبغ على (دلزي) صفات فيها الكثير من القداسة والدقة والشاعرية كما يقول جبرا إبراهيم جبرا إذ يصفها بقوله: "كانت امرأة ضخمة فيما مضى، ولكن هيكلها الآن ينتصب، يكسوه إهاب واسع غير محشو ... كأن العضل ولفائف اللحم كانت يوما شجاعة أو جلدا أتت عليه الأيام والسنون فلم يبق إلا الهيكل العظمي الذي لا يقهر منتصبا كالخرائب ... ويعلو جميع ذلك وجه متداع يوحي للرائي بأن عظامه خارج اللحم، يرتفع إزاء النهار الهتون بتعبير في القسمات قدري يماثل في الوقت نفسه خيبة طفل ودهشته ... " (12)

إننا أمام صفات توحي بعظمة الشخصية، وصلابتها، في حين لم تظفر سيدة البيت الارستقراطية سوى بأوصاف سريعة تثير الملل والضيق، وتوحي بهشاشتها!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير