الثانية: استخدام الترقيم أو إهماله، وفق حاجة المؤلف، فكلما انتقل الحدث المباشر في سيرورة الرواية إلى الحدث المستذكر الذي أصبح انسيابا ذهنيا (بعد أن كان تسلسلا جسديا) انعدم الترقيم، لأن الترقيم يوحي بالفواصل المنطقية، وفي تيار الوعي تنساب الذكريات (بما فيها من أفعال متداخلة وأقوال) دون فاصل أو نظام منطقي.
رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني
نبذة عن حياة غسان كنفاني:
ولد غسان كنفاني في عكا (1936) لكنه عاش مع أسرته في (المنشية) في يافا، ومع النكبة انتهت الطفولة السعيدة لتبدأ رحلة الشقاء، إذ بات مسؤولا عن عائلته الكبيرة اللاجئة إلى لبنان أولا، ثم إلى سورية، فعمل في مهن شتى (عاملا في أحد المطاعم، ثم عاملا في مطبعة، وفي كتابة الشكاوى على أبواب المحاكم ... ) لكنه استطاع أن يتابع دراسته، رغم كل شيء، وحين حصل على الشهادة الإعدادية عمل معلما في مدارس وكالة الغوث، دون أن يتخلى عن متابعة تعليمه مساء، فاستطاع متابعة دراسته الثانوية والتسجيل في جامعة دمشق، في قسم اللغة العربية، وفي عام (1955) انتسب إلى حزب القوميين العرب، ثم سافر إلى الكويت ليعمل فيها خمس سنوات في تدريس مادتي (الرياضة والرسم) وقد عانى فيها من الغربة والعزلة والمرض (داء السكري) ثم تركها إلى بيروت ليتفرغ للعمل الثوري ضد الصهاينة، حيث وجدناه يناضل عبر الكلمة المكتوبة (في الأدب وفي الصحافة) وقد انضم إلى هيئة تحرير مجلة "الحرية"، وحين انشقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن حزب القوميين العرب، شارك في تشكيل برنامجها السياسي وصياغة بياناتها، وأصدر مجلة الهدف (الناطقة باسمها 1969) وقد أحست الصهيونية بخطر غسان كنفاني عليها، فاغتالته، مع ابنة أخته، وذلك بنسف سيارته (1972)
وهكذا كانت سيرة حياته سيرة نضال بدأ منذ خروجه من فلسطين إلى أن توجت باستشهاده.
أعماله الأدبية:
جمعت أعماله الأدبية والنقدية إثر استشهاده في أربعة مجلدات (المجلد الأول لأعماله الروائية، والمجلد الثاني لأعماله القصصية، والمجلد الثالث لأعماله المسرحية والمجلد الرابع لدراساته الأدبية)
نشر غسان كنفاني روايته الأولى "رجال في الشمس" (1961) التي تتحدث عن معاناة الفلسطينيين الثلاثة الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة (أبو القيس، مروان، أسعد) وتبرزهم في لحظة الهرب إلى الكويت عبر الصحراء في خزان شاحنة، وقد مات الفلسطينيون الثلاثة، في الصحراء على حدود الكويت، دون أن يجرؤوا على دق جدران الخزان.
في رواية "ما تبقى لكم" (التي كتبها عام 1964، ونشرها عام 1966) التي تتحدث عن معاناة أسرة فلسطينية مزّقتها نكبة فلسطين (1948) فباتت الأم في بلد (الأردن) وولداها (حامد ومريم) في بلد آخر (غزة) في حين استشهد الأب في فلسطين.
يقرر البطل الفلسطيني (حامد) اللجوء إلى أمه في الأردن عبر صحراء النقب التي يحتلها العدو الصهيوني، وذلك بعد أن فقدت أخته (مريم) شرفها، وحملت سفاحا، فاضطرت للزواج من رجل نتن متزوج ولديه خمسة أطفال يدعى (زكريا)
هنا لا نجد الصحراء الفلسطينية التي لجأ إليها (حامد) تخبئ له الموت، وإنما على النقيض من ذلك تساعده على اكتشاف ذاته وتطور وعيه إلى درجة تسمح له بالاصطدام بعدوه الحقيقي (الجندي الإسرائيلي)
قدم لنا غسان كنفاني الشخصيتين الرئيستين (حامد ومريم) عبر تيار الوعي الذي يختلط فيه الماضي بالحاضر والحلم بالمستقبل، وتختلط فيه أيضا أصوات هاتين الشخصيتين إلى درجة نجد من الصعوبة التمييز بينهما أو الحديث عن إحداهما دون أن نتطرق للحديث عن الأخرى، لذلك سنحاول تقديم هذا الوعي بشكل منظم، لكننا لن نستطيع فصل هاتين الشخصيتين إلا فصلا شكليا وهميا، إذ سنلاحظ تلاحما بينهما في المعاناة وفي الأفكار والهواجس، بل سنجد لحظة الفعل الدرامي في الرواية، تكاد تكون واحدة.
¥