تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لم تعد الصحراء (التي وجدناها في المنفى، مقبرة الفلسطيني، كما رأيناها في رواية "رجال في الشمس"، فقد تحولت صحراء الوطن إلى (مملكة) تارة وإلى إنسان يحس بالفلسطيني فيجده متفوقا على عدوه حين وقف على أرضه، وقرر المواجهة، لذلك تعلن صحراء الوطن توحدها بالفلسطيني، حين ترك ذله وعاره، وقرر دخول أرضه ومعرفة ذاته بعيدا عن الأوهام التي تفقد الإنسان ثقته بنفسه.

وعلى أرضه (الصحراء) يلتقي (حامد) بعدوه فيكتشف أن الحوار معه مستحيل، فهما لا يملكان لغة مشتركة، إذ شتان بين لغة المعتدي والمعتدى عليه، لذلك يبدو الحوار معه مضيعة للوقت، فيتأكد أن الحوار الوحيد الذي يمكن أن يجري بينهما هو حوار السلاح، وهو واثق من الانتصار على عدوه مادام يستمد من حب الأرض قوة تمنحه القدرة على التوحد بها وبالتالي مواجهة عدوه بصورة أفضل، إذ لم يعد أمامه شيء يخسره، فقد خسر كل شيء في الماضي: الوطن، والأم والأخت، والأصدقاء "ما تبقى لكم، ما تبقى لي، حساب البقايا، حساب الخسارة، حساب الموت، ما تبقى لي في العالم كله، ممر من الرمال السوداء، عبّارة بين خسارتين، نفق مسدود من طرفيه"

يبدو لنا (حامد) محاصرا بالخسارة قبل أن يقف على أرضه ويواجه عدوه، عندئذ تستيقظ في أعماقه ذكرى البطولة والشهادة، تتولد في ذاته رغبة المقاومة والتحدي، فقد استعاد ثقته بنفسه، وقرر أن يتجاوز ضعفه ويطرد بؤسه وعاره، خاصة بعد أن أدرك أنه لم يعد يملك ما يخسره، يقول لعدوه (المجند الإسرائيلي الذي صادفه في الصحراء أثناء محاولته اللجوء إلى أمه): تعالَ أقل لك شيئا مهما ليس لدي ما أخسره الآن، ولذلك فقد فاتت عليك فرصة أن تجعلني ربحا" لأن موت الإنسان، حين يكون مواجها لعدوه، لن يكون خسارة، على النقيض سيتحول الموت إلى حياة، وتتحول المواجهة مع العدو إلى ولادة جديدة في مستقبل قريب.

إذا يجسد (حامد) نبوءة الفدائي الذي سيغامر بدخول الأرض المحتلة ليصل إلى أمه الحقيقية (الوطن) لينفض عن نفسه غبار الوهم الذي عشش في داخله طويلا، وقد تجسدت هذه النبوءة بعد سنة من كتابة الرواية (1965) يطلق الفدائي رصاصة الثورة، وهكذا نجد المبدع الأصيل يستشرف المستقبل ليسلط الضوء على القوى الإيجابية فيه ببين ركام السلبيات.

زكريا: نلاحظ في الرواية وجود شخصية سلبية يمكن أن نعدها الشخصية المقابلة لـ (حامد بطل الحاضر) وللشهيد (سالم بطل الماضي) أو بالأحرى الشخصية النقيضة لهما (زكريا) إنها شخصية ثابتة مسطحة، لا تملك أعماقا أو صوتا خاصا بها، تتجسد فيها الصفات السلبية التي تنعكس على الشخصيات، فتؤذيها في حياتها وفي كرامتها وشرفها، وقد تسهم في عرقلة وعيها الوطني وتنغيص وجودها الإنساني، إنه صورة للذل وللنتانة، يرسم لنا المؤلف شكله الخارجي ليخبرنا عن أعماقه " ضئيل بشع كالقرد، وهو مجرد لطخة مصادفة في مكان غير مناسب".

إننا لا نتعرف على زكريا إلا عن طريق تداعيات (حامد ومريم) إنه دنيء النفس لا يفكر إلا بملذاته الجسدية، يتزوج امرأة أخرى من أجل ذلك، رغم أن لديه خمسة أطفال من زوجته الأولى، والمرأة لديه وسيلة للمتعة فقط، لهذا يطالب مريم أن تجهض جنينها قائلا لها: "إنك لن تكوني طوال عام كامل امرأة ستكونين مجرد زجاجة حليب فقط"

صحيح أنه يمارس مهنة التدريس في مدرسة واحدة مع حامد، إلا أننا نحسه غير مخلص لعمله، إذ يتهرب من الدوام بأعذار ملفقة، لذلك اجتمعت في هذه الشخصية صفات النذالة كلها، فهو لم يكتف بأن يكون سلبيا في حياته، بل تعدى ذلك إلى الخيانة، حين يشي بصديقه سالم ليحافظ على حياته.

قد يكون (حامد) نقيضا للفدائي (سالم) الذي وعى طريقه في المقاومة منذ بداية الاحتلال، لكن (حامد) تجاوز تردده بفضل بؤس التجارب التي عايشها، وبدأ يدرك أن حقيقة الحياة تكمن في المعاني النبيلة التي يجسدها الفداء بأجلى صورة، لهذا رأينا في شخصية (زكريا) نموذجا نقيضا مدمرا لكل المعاني النبيلة، إنه العدو الداخلي الذي يماثل في بشاعته العدو الخارجي (المجند الإسرائيلي) لذلك ستقضي عليه (مريم) في اللحظة التي يقضي (حامد) على عدوه الإسرائيلي، لتستطيع الشخصية الفلسطينية متابعة طريقها نحو التحرر والتطور في بيئة نظيفة من الأعداء الداخليين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير