تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مريم: تعد هذه الشخصية موازية لشخصية (حامد) وهي فتاة في الخامسة والثلاثين من عمرها، أدت نكبة فلسطين إلى شقائها، فحين ضاعت يافا ضاع معها كل شيء: الأب قد استشهد مدافعا عن الأرض، وتضيع الأم عن أولادها فتلجأ إلى الأردن، وأما الخطيب فقد استشهد، لذلك لن نستغرب ذلك الإحساس المرعب بالزمن حتى صار مقبرة لأحلامها "علقت هذا النعش أمامي (الساعة) ليدق هذه الحقيقة الفاجعة على سمعي ليل نهار"

إن الزمن الذي لا يجلب إلا المآسي للمرأة سيكون "نعشا" تدفن فيه أحلامها، لذلك باتت الساعة تذكرها بحقيقة أنها فقدت الأمل في هذه الحياة، ولن تستطيع العثور على زوج، لهذا تحس التمزق والحرمان، فالزمن يمسك بخناقها، معلنا موتها، عبر دقات الساعة، وفقدان جمالها، لذلك لن نستغرب ارتماءها في أحضان (زكريا) المتزوج ذي الأطفال الخمسة، وحين تحمل سفاحا، تحدث أخاها (حامد) بعارها، فلا نجدها تتعرض للذبح أو الضرب، وإن تخيل ذاته، عبر تداعياته، أنه قد ذبحها وتخلص من عارها فهو لم يستطع أن يتخلص من إرثه الشرقي، وإن استطاع أن يعبر عنه عن طريق الحلم ليجد متنفسا له.

وقد وجدناه يحاول إقناعها عبر المنطق بضرورة التخلص من الجنين مادام سيربيه رجل مثل (زكريا) لكنها ترفض، فيضطر عندئذ لتزويجها منه، ليتركها ويرحل إلى أمه في الأردن، بعد أن فقد كل شيء، يمكن للإنسان أن يعيش من أجله.

يبدو لنا المؤلف غسان كنفاني متعاطفا مع الشخصية النسوية مبررا فعلتها على لسان أمها (التي جعل مريم تتخيلها، عبر تداعياتها) تقول لها:"أيتها المسكينة الصغيرة يا مريم! أي بؤس أمضيت فيه حياتك جعلك تقبلين بهذه النهاية! أنت يا وردة المنشية بأكملها، الطموحة المتعلمة، ذات الأصل والفصل! أي حياة تعسة جعلتك تقبلين زكريا بأعوامه كلها وزوجته وأولاده زوجا"

إن مثل هذا الزواج غير المتكافئ لن يسعدها، إذ لا يمكن أن يمنحها السكينة، ويقضي على تمزقها وضياعها، لذلك لو كانت الأم (التي تصلح هنا رمزا للأرض) موجودة لما سقطت مريم، واضطر حامد للرحيل عبر الصحراء بحثا عنها، تقول مريم عبر تداعياتها "لو كانت أمي هنا لكان لجأ إليها، للجأت إليها أنا، لقلنا كلمة واحدة عنه"

لهذا فشل زواجها، فقد أحست، منذ اليوم الأول، بالغربة، وبانفصالها الروحي عنه، فهو على نقيض أخيها (حامد) الذي تحس بتوحدها الروحي معه، لذلك كان غيابه مؤلما لها، حتى الروابط التي تربطها به نجدها تنمو حين يغادر البيت إلى الصحراء بدل أن تذوب، يساعدها الزمن في هذا التوحد (الساعة التي أتى بها حامد، والتي تشبه النعش) فتتابع خطواته في الصحراء، حتى باتت دقات الساعة صوت خطواته فيها، وبذلك تتغير دلالات الساعة حين يتحرك الفلسطيني باتجاه الفعل والالتحام بعدوه، فتتحول من نعش يضم جسد الفلسطيني إلى كائن نابض يتوحد بالإنسان.

يبدو لنا توحد مريم بحامد، رغم المسافة التي تفصل بينهما، توحدا مدهشا، فحين يتعرض حامد للخطر بالتحامه مع العدو، تحس به مريم وتجتاحها رعشة مفاجئة، فتنتفض قائلة "لقد حدث شيء ما له في هذه اللحظة بالذات" وقد ساعدت تقنية تيار الوعي على تقديم هذا التوحد بين الشخصيتين، فاستطعنا أن نعايش هذه العلاقة الثنائية في زمن واحد، دون أن يؤطرها مكان واحد (غزة، الصحراء) كما هو معروف في الرواية التقليدية.

عانت مريم من التمزق بين قيم أخيها النبيلة (التي تجسد الماضي بكل مآسيه كما تجسد آمال الحاضر بمستقبل أفضل) وقيم زوجها الدنيئة التي تجعلها تحس أنه سيمسخها إلى مجرد ممر تافه بين بيته ومدرسته، يقضي حاجته الجسدية فيه ويذهب، لذلك يريدها أن تجهض الجنين، الذي بات يشكل لديها الأمل الوحيد في مستقبل أفضل، وحياة إنسانية ذات معنى، لذلك تقرر العيش من أجله، كي تربيه وفق أحلامها نظيفا بريئا، فتجعله امتدادا لذاتها (أي أخيها) لهذا ترفض إجهاضه بناء على طلب الأخ (تخلصا من عاره) وبناء على طلب الزوج (للتخلص من مسؤولية إطعام فم جديد يضاف إلى الأفواه الخمسة التي لديه) وحين يصر زكريا على إجهاض الجنين، ويهددها بالطلاق إذا لم تتخلص منه، لا تجد وسيلة للحفاظ على الجنين سوى قتل هذا الزوج النتن للتخلص من القذارة التي لوثت حياتها، وكي تحافظ على كرامتها وإنسانيتها من زوج يريدها أداة لمتعته فقط، وهي تؤكد، بقتله، لنفسها ولأخيها أن الطفل سينشأ في جو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير