_ كان الهم العام لدى كنفاني أكثر وضوحاً من فوكنر، إلى درجة يشعر فيها المتلقي أن هذا الهم قد تحول إلى هم خاص لديه، في حين تحس المتلقي بأن الهم الذاتي كان طاغيا على تداعيات شخصيات فوكنر، لهذا لن نستغرب حرص الكاتب كنفاني على أن يسود الرواية روح التفاؤل، لذلك ترك (حامد ومريم في الخاتمة) وهما يتأهبان للفعل، إننا نجد في هذه الرواية تفاؤل المناضل بالانتصار على عدوه الخارجي والداخلي، هذا النصر قد لا يتحقق اليوم لكن الأجيال القادمة حين ترعاها أيد نظيفة ستستطيع صنع النصر، لهذا حافظت مريم على الجنين، وقتلت من يريد موته أو تلويثه بالقذارة والعار.
بينما سادت في رواية فوكنر روح التشاؤم والانهزام، فنسمع صوت الخادمة دلزي يعلن لنا نهاية الأسرة، حين تقول بأنها شهدت البداية والنهاية لهذه الأسرة التي يسوء حالها إلى درجة يباع فيها البيت، ويتحول إلى نزل، وهذا قمة الانهيار.
_ تجلت خصوصية كنفاني أيضا في رسم الشخصية، وإبراز تفاعلها مع الزمن والحدث ومجموعة القيم، صحيح أن كلا من حامد وكونتن يتعلقان بفكرة الشرف الذي تفقده الأخت في كلتا الروايتين، إلا أن كونتن بدا عاشقا للموت، يائسا، مأزوما تسيطر عليه فكرة عبثية الزمن، لذلك يجد خلاصه بالانتحار، بعد أن فقد صلته بأي إنسان أو أي قيمة عليا يمكن للإنسان أن يعيش لأجلها، في حين كان حامد عاشقا للأرض، أي الوطن، لم يستطع الهرب منه، لذلك لم يواصل مسيرته إلى الأردن، بل بقي في أرضه يقاتل عدوه، وهكذا لم يؤد الهرب لدى حامد إلى الموت وإنما إلى الحياة الكريمة التي لن تكون إلا بمواجهة العدو، أما كونتن فقد أدى به الهرب المجاني إلى موت مجاني يوحي بالعجز عن مواجهة أعباء الحياة.
_ الشخصية النسوية لدى فوكنر (كادي) لم نسمع صوتها الخاص بها، في حين وجدنا صوت (مريم) جنبا إلى جنب مع صوت الرجل، بل استطاع الكاتب أن يقدم لنا معاناتها الخاصة التي تجعل المتلقي متعاطفا مع ضعفها، لأنها استطاعت رغم خطئها، أن تكون فاعلة في حياتها، متجاوزة لهذا الخطأ، بل مصححة له، وذلك حين قررت قتل زكريا الرجل الذي لوثها بالخطيئة ثم أراد، بعد أن أصبح زوجها أن يقضي على الأمل (الجنين) الذي قررت أن تهبه حياتها.
إذا أخطأت مريم مع زكريا من أجل الحصول على زوج، لنلاحظ هنا الدلالة الطهرية لاسم مريم (التي تتصل بسمات السيدة العذراء) لذلك حين تكتشف أن هذا الزوج مناقض لحياتها النظيفة، ومهدم لأملها تقرر التخلص منه، أما (كادي) فتاة ترغب في التحرر الجنسي، لذلك تنطلق فيه لتصبح عاهرة.
لهذا كله لا نستطيع أن نقبل تحديد د. عز الدين المناصرة لنقاط التأثر السلبية لدى كنفاني بالنقاط التالية: التقنية الشكلية، الزمن، فكرة الحرام (1)
من هنا يمكننا القول مع جبرا إبراهيم جبرا "إن غسان كنفاني استطاع أن يحول الصخب والعنف إلى رواية فلسطينية مليئة بشخصيته"
الحواشي:
1_ روبرت همفري "تيار الوعي في الرواية الحديثة" ت. د. محمود الربيعي، دار المعارف بمصر، ط2، 1974
2_ جان إيف تادييه "الرواية في القرن العشرين" ت. د. محمد خير البقاعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص 159 بتصرف
3_ ميلان كونديرا "فن الرواية" ت. بدر الدين عرودكي، دار الأهالي، دمشق، ط1، 1999، ص 71
4_ آلان روب غرييه "نحو رواية جديدة" ت. إبراهيم مصطفى إبراهيم، دار المعارف بمصر، دون تاريخ، ص 130 بتصرف
5_ د. أمينة الرشيد "تشظي الزمن" الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1998، ص 147 بتصرف
6_ د. نبيل الشريف، د. ضياء الجبوري، د. أحمد المجذوبة، د. عصام الصفدي، روائع الأدب الأميركي" مركز الكتب الأردني، 1995، ص 721
7_ وليم فوكنر " الصخب والعنف" ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب، بيروت، ط2، 1979، المقدمة، ص 7_8
8_ وليم شكسبير "مكبث" ت. جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1980، ص 184
9_ "الصخب والعنف" ص 106
10_ المصدر السابق، 126
11_ المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 16
12_ نفسه، ص325
13_ غسان كنفاني، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1972، ص 16
14_ المصدر السابق، ص 210
15_ المصدر السابق نفسه، 195
16_د. عز الدين المناصرة "مقدمة في نظرية المقارنة، دار الكرمل للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1988، ص 299
¥