نموذج القاتل المثالي بين عطيل شكسبير
وراسكولينكوف دوستويفسكي
يقدم لنا الأدب العظيم عوالم إنسانية مدهشة، إلى درجة يجعلنا نتقبل غير المألوف والشاذ، إنه يزلزل قناعاتنا، فيجعلنا نتعاطف مع شخصياته المتخيلة، التي قد نرى ممارساتها مستهجنة، فيما لو كانت على صعيد الواقع وأخضعناها لقوانين منطقية جامدة، فالقاتل إنسان مجرم يمتلك صفات كريهة منفرة تبرز بشاعته، وتلغي إنسانيته، لكن الأدب يستطيع أن يقدم لنا مجرما استثنائيا، يجعلنا نتعاطف مع لحظات ضعفه، بما يمتلك من رهافة حس وشاعرية، أو بما يمتلك من رؤية إنسانية إصلاحية تبيح له ارتكاب جريمة القتل لإصلاح المجتمع.
إن نموذج القاتل المثالي يمتلك شخصية جذابة، كما يمتلك حسا إنسانيا، لهذا يخترق هذا النموذج ما ألفناه من صور كريهة للمجرمين في تصرفاتهم وأخلاقهم، كما تميز بندرته في الأدب، وتسليط الأضواء عليه لا يعني تسليط الضوء على الجريمة أو تشجيعها، على النقيض يؤدي ذلك إلى النفور من الجريمة والظروف التي أدت إليها، لهذا لا نستطيع أن نقول إن نموذج القاتل الشريف بعيد عن الحياة، إنه نموذج يجسد موقفا من الحياة، أي يجسد علاقة الكائن ببيئته وبالآخرين في وقت ومكان محددين، وهو كشف للإنسان وعما يحيط به من عوامل " (1) لا يستسلم لها، بل يحاول تغييرها من أجل أن يعيش المثل الأعلى في حياته، ويحاول الدفاع عنه لذلك يرتكب جريمة القتل، إنه يختزل بصفاته المتعددة الإنسان في أي زمان وأي مكان، فيقدم لنا نمطا سلوكيا، يتميز بالتفرد من جهة وبالعمومية من جهة أخرى، إذ يستطيع أن يشمل معاناة الإنسان ومخاوفه الخالدة
من هنا استحق هذا النموذج الدراسة، وإذا سبق شكسبير دوستويفسكي في تناول شخصية القاتل الشريف في مسرحية (عطيل)، إلا أننا لا نستطيع أن نقول إن الروائي حين رسم راسكولينكوف قد تأثر بشخصية عطيل تأثرا مباشرا، وإنما سنجد التشابه بين الشخصيتين نابع من التوجه الفكري والإنساني لكلا الكاتبين، وسنلمس خصوصية الأديب، كما سنلمس خصوصية عصره أيضا.
ثمة تساؤل لابد أن يتردد في أذهان البعض: كيف نسمح لأنفسنا بمقارنة شخصية مسرحية بشخصية روائية؟
أعتقد أن ثمة لقاء بين الشخصية المسرحية والشخصية الروائية ليس في اعتمادهما على الحوار الذي نستطيع عبره أن نسبر أغوار الشخصية، ونتعرف على صراعاتها فقط، وإنما لاعتمادهما على سمات جسدية ونفسية وفكرية تهب الشخصية فرادتها وتمنحها بالتالي هويتها الخاصة، كما تمنحها القدرة على تمثيل هموم الإنسان بشكل عام.
سنحاول في هذه الدراسة التعرف على المؤلفين وعلى بطليهما، ثم سنرصد جوانب اللقاء بينهما.
شكسبير:
ولد في قرية مغمورة ستراتفورد أن أفون وعمد فيها سنة (1564) وكان أبوه ذا شأن في بلده ويفترض أنه وفّر له تعليما متوسطا، تزوج شكسبير من امرأة تكبره بثماني سنوات،، وقد رحل إلى لندن وفي عام 1592، في عام (1594) أسس (فرقة اللورد تشامبرلين) وقام فيها بدور الممثل والكاتب الشريك، وقد استطاعت أن تبني فرقة خاصة بها، شملتها الرعاية الملكية، وأصابت حظا وافرا من الربح والشهرة، وقد اكتسب شهرة كبيرة ليس فقط بفضل مسرحياته وإنما بفضل قصائده التي كتبها sonnets)) ونشرت سنة (1609)
تعد السنوات الست الأولى من مطلع القرن السابع عشر فترة المآسي الكبرى في إنتاج شكسبير (هملت، عطيل، مكبث، الملك لير، أنطونيو وكليوباترا، كوريولانس) ولم تقتصر كتابة المأساة على فترة محددة من حياته، فقد مارسها في مراحل إنتاجه، إلا في سنيه الأخيرة حيث انصرف إلى الكوميديا وخصها بمعظم اهتمامه.
لم يعبأ شكسبير بالقواعد الكلاسية، فقد أصر على الجمع بين الهزل والجد في المسرحية الواحدة، ولم يتقيد بوحدتي الزمان والمكان، وركز اهتمامه على وحدة العمل المسرحي فقط، وقد أبدع في مجال تصوير الشخصية التي كان يمنحها مقومات الحياة والحركة، ويسلط عليها الأضواء من جوانب مختلفة، ويبرز ما يمكن أن تنطوي عليه من تناقض وتردد، فتتجسد شخصية حية واقعية لا رمزا باهتا.
¥