تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبذلك نستطيع القول: إن دوستويفسكي كان في رواياته فنانا ومبشرا وفيلسوفا، وعالما اجتماعيا، وإن أية محاولة لفصل الجانب الفني لديه عن الجانب الفلسفي الاجتماعي محاولة غير مجدية، وغير دقيقة، يقول دوستويفسكي "إن إيجاد الإنسان في الإنسان مع الواقعية الكاملة ميزة روسية على الأغلب ... يدعونني عالما نفسانيا، هذا غير صحيح، أنا واقعي بالمعنى السامي للكلمة، أي أنني أصور كل أعماق النفس الإنسانية"

اعتقد دوستويفسكي أن العالم المحيط بالإنسان كلما كان "خياليا" لا إنسانيا، زاد شوق الإنسان إلى المثل الأعلى، وبات من واجب الفنان إيجاد الإنسان في الإنسان، أي ألا يصور الفوضى والدمامة المسيطرتين على العالم، بل ينقل إلى القارئ ذلك الشوق الكامن في الروح الإنسانية إلى المثل الأعلى بواقعية كاملة، وبذلك يصور الطموح إلى بعث الإنسان الذي قهرته الظروف وكمود العصور والرواسب الاجتماعية، ولذا فإن صوت الفنان المفكر الذي عقد محكمة قاسية للمدنية في عصره، لا يمكن وضعه جنبا إلى جنب مع أصوات أبطاله ... (8)

بناء على هذا القول نجد في شخصية (راسكولينكوف) تجسيدا لبعض الأفكار التي يرفضها المؤلف، ويثبت زيف دعواها عبر الرواية، فالبطل يدعي بأنه يستطيع استيعاب الجريمة بالعقل، وتبريرها بالعقل والقيام بها بالعقل، وهذا تأكيد على عقلانية الإنسان التي رآها الماديون، الذين يؤمنون بالإنسان الإله.

بناء على هذه الأفكار نجد طالب الحقوق (راسكولينكوف) بطل رواية "الجريمة والعقاب" يقوم بقتل مرابية عجوز تدعى (أليونا) بعد تخطيط دقيق، لكنه يضطر لقتل أختها (إلزابيتا) فقد نسي إغلاق الباب وراءه، وبعد القتل يسرق بعض المال ويهرب.

لو تعمقنا في شخصية القاتل، في هذه الرواية، لوجدناها شخصية غير عادية، إنها مثقفة، تسعى لتجاوز وضعها البائس، فقد عاش هذا الطالب عيشة فقيرة في غرفة كأنها (الكفن)، ورأى تعقد العلاقات الاجتماعية وقسوتها، مما يدفع الإنسان الشريف إلى العذاب والموت، (جارته سونيا تضطر لبيع جسدها من أجل إطعام إخوتها، في حين نجد أخته دونيا تفكر بالزواج من رجل كهل لا تحبه من أجل مساعدته ومساعدة أمها) لذلك رأى في قتل المرابية العجوز تصفية للشر الاجتماعي، فهي تجسد أحد مظاهره، وبقتلها يحاول أن يرفع الظلم الاجتماعي بالاستحواذ على ثروتها وتوزيعها على الفقراء وطلاب العلم، إنه يأمل في تقديم الخير للإنسانية المعذبة، فهو يؤمن أن استخدامه للنقود في فعل الخير يلغي فعل الشر.

إذا الدافع الاجتماعي أمر لا يمكن الشك فيه، لكنه يطرح أمامنا مشكلة اجتماعية عميقة: هل تسوغ الغاية النبيلة الوسيلة القذرة التي نستخدمها من أجل تحقيقها؟ هل يحق لنا أن نضحي بوعي كامل ولو بحياة إنسان واحد من أجل سعادة الآخرين؟

إلى جانب الدافع الاجتماعي ثمة دافع فكري، إذ لم يكن الهدف المال والثراء الشخصي (إذ لم يستفد من المال المسروق سوى تقديم مساعدة لعائلة فقيرة تقيم بجواره هي عائلة مارميلادوف) فقد آمن راسكولينكوف بفكرة سعى إلى تطبيقها هي: إن بالإمكان اختزال البشر إلى فئتين، فئة المتفوقين العباقرة أمثال نابليون، يملكون الحق في عمل كل شيء، يرى نفسه منهم، وفئة اخرى هي فئة الناس العاديين يدعوهم "القمل" لهذا نجده يقول "الإنسان غير العادي يملك الحق في أن يجيز لضميره تخطي بعض الحواجز، إذا ما كان ذلك مساعدا على تحقيق فكرته التي قد تعود بالنفع على الجنس البشري بأكمله .... إن كافة المشرعين وموجهي الإنسانية كانوا مجرمين في حق القانون، فهم أتوا بشرائع جديدة، انتهكوا بعملهم هذا القوانين القديمة التي يرعاها المجتمع بعنايته ويحفظها عن الجدود". وكما يرى أندريه جيد بأن راسكولينكوف أول من ترتسم لديه فكرة الإنسان المتفوق التي سنجدها عند نيتشه (9)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير