تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبما أنه إنسان متفوق يحق له القتل الذي برره بالعقل (امرأة عجوز في أواخر أيامها، حياتها ضرر على الفقراء الذين يرهنون عندها حاجياتهم فتعطيهم ربع ما يقابلها من مال، لذلك سيأخذ ما تملك من مال ويوزعه على أمثاله من العباقرة، كما سيساعد به الفقراء) وبعد أن يبررها بالعقل يخطط لها بالعقل (قرابة ستة أشهر)، لهذا نجده يدير ظهره للعواطف و للمشاعر الإنسانية، فلا مكان لها في حياة الإنسان المتفوق، لكنه حين ينفذ جريمة القتل بالعقل، يكتشف أنه بشر عادي يخاف من الآخرين بل يرتكب جريمة قتل لم يخطط لها بعقله (إذ يضطر لقتل الأخت الطيبة للمرابية التي تساعد الفقراء، بل قد ساعدته هو نفسه) إنه يخاف فيقتل إنسانا بريئا، وبدافع الخوف أيضا كان قد ترك الباب مواربا دون إغلاق، لذلك تدخل إليزابيتا، لتشهد جريمته، فيقتلها خوفا من افتضاح أمره، ثم يكتشف أن إنسانا بريئا سيحكم بالإعدام بسببه، إذ اتهم بارتكاب جريمة قتل العجوز وأختها، فينتابه تأنيب ضمير حاد، لم يحسب حسابه.

كذلك نلاحظ لدى راسكولينكوف رغبة في امتحان نفسه، قبل ارتكاب جريمة القتل، هل هو إنسان متفوق أم هل هو إنسان تافه؟ هل يحق له تجاوز القانون والعرف؟ وبذلك يتحول قتل المرابية العجوز إلى امتحان لذاته وتأكيد تفوقه، الأمر الذي يعزز وجوده في عالم الأخلاق والمثل! فقد كان يظن أنه سيقتل الشر حين يقتلها! ويعلن انتماءه إلى أولئك الذين يمارسون ما يريدون من تصرفات لأنهم بشر كاملون أشبه بآلهة.

إن تصرفات راسكولينكوف نابعة من تكوين ثقافي، كان قد انتشر في عصر دوستويفسكي، فقد ظهرت أفكار العدميين والملحدين الذين يعلون من شأن الإنسان، ويرون فيه مخلوقا خاليا من التعقيد مادام يملك العقل، إذ يجدون في هذا العقل أداة لا تضاهى لإحقاق الحق في هذه الحياة، فالإنسان قادر على حل مشكلاته بالعقل، بمعزل عن الإيمان، فهم يتبنون مقولة إيفان كارامازوف الذي أباح قتل الأب مرددا"إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح" لذلك حمل راسكولينكوف أفكارهم، ليكتشف، عبر جحيم المعاناة الداخلية، زيف مقولتهم، فبعد ارتكاب الجريمة يعاني البطل أزمة داخلية حادة، ويكتشف حقيقة أن الإنسان لا يمكن أن يكون عقلا فقط، وان الازدواجية بين العقل والشعور والانفعالات جزء من طبيعة الإنسان، وبذلك كشف لنا دوستويفسكي عبر أزمة بطله عن الدور الحاسم الذي تلعبه العواطف في حياة الإنسان وسلوكه.

إن مأساة راسكولينكوف في عدم فهمه للانشطار الذي تقوم عليه النفس البشرية، مع أنه عانى من ذلك الانشطار، حتى اسمه (راسكول: raskolot يعني بالروسية الانشقاق والانقسام) (10) فإذا ظهر القسم الأول من شخصيته (الجانب العقلي) مع بداية الرواية وارتكاب جريمة القتل، فإن الشق الثاني من شخصيته (الجانب الروحي والانفعالي) قد ظهر حين أقدم على فعل القتل، إذ بدأت تعتريه الانفعالات وأزمة الضمير الحادة التي تكاد تؤدي إلى دماره لولا وقوف (سونيا) إلى جواره بأن تدله على طريق الإيمان بالله، والتطهر بالحب الذي يشمل كل البشر، لذلك يعترف بجريمته، لأنه بدأ يحس أن أي عقوبة اجتماعية هي أخف وطأة من عقوبة الضمير!!

كثيرا ما وصفت رواية "الجريمة والعقاب" بأنها رواية "إثارة سيكولوجية" لكن الإثارة فيها ليس لأنها تروي جريمة قتل المرابية، وكيفية انكشاف الجريمة، بل لأنها تروي مقاومة البطل لأزمة الضمير، ولذلك الصراع الداخلي العنيف بين ما كان يؤمن به وما تكشف له عن طريق الفعل من خطأ أدى به إلى الإجرام بحق الإنسانية، في حين كانت رغبته صادقة في مساعدتها، لذلك نجده يصرخ بأنه لم يقتل العجوز وإنما قتل نفسه، إذ قتل الجانب الخير فيها (بقتله إليزابتا الخيرة) كما قتل الجانب الشرير فيها (بقتله المرابية أليونا)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير