تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكلمة [لعل] السابقة تنفي فرضية الجزم بأولية امرئ القيس في اعتلاء منصة أمارة الشعر، فقد يكون من سبقه نال شرف هذا اللقب، غير أن ذكره لم يصل إلينا، أو بقي حبيسًا في خزائن الكتب، وأرحام المخطوطات؛ ولذا لم أقطع بذلك وأجزم.

ويقول الحصري (ت 453 هـ):" ذكر عمر بن علي المُطَوَعي في كتاب ألّفه في شعر أبي الفضل ومنثوره والشعراء، فقال: رأيتُ أهل هذه الصناعة قد تشعّبوا على طُرُق، وانقسموا على ثلاث فرق، فمنهم من اكتسى كلامه شرف الاكتساب دون شرف الانْتِساب،كالمكتسبين من الشعراء بالمدائح، المترشحين بها لأخْذِ الجوائز والمنائح، وهم الأكثرون من أهل هذه الصناعة؛ ومنهم من شَرُفت بناتُ فكره عند أهل العقول، وجلبت لديهم فضائل القَبُول، لِشَرَف قائلها، لا لِكَثرة عقائلها، وكرم واشيها، لا لرِقَة حواشيها، كالعدد الكثير، والجمّ الغفير، من الخلفاء والأمراء والجِلّة والوزراء؛ ومنهم من أخذ بحبل الْجَوْدة من طَرَفَيْه، وجمع رداءَ الْحُسْنِ من حاشِيَتَيه، كامرئ القيس ابن حُجْر الكندي في المتقدّمين، وهو أميرُ الشعراء غير مُنازع، وسيّدهم غير مجاذَب ولا مدافع" (3).

ويقول الحاتمي (ت 388 هـ) في معرض حديثه عن امرئ القيس:" فهذا أمير الشعراء؛ ومن بعده النابعة، وقد قدّمه عليه قوم، فقال:

وتَخالهاُ في البيتِ إذْ فاجأتها ... قد كانَ محجوباً سراجُ المَوقد

وإنما اعتمد فيه على قول امرئ القيس:

تضُيء الظّلامَ بالعشاء كأنهاّ ... منَارَةُ مسمىَ راهب متَبتلِ" (4).

وهذه الأحكام له دلالات عدة، تشفع كلها لامرئ القيس في اعتلاء منصة التتويج بلقب الإمارة، فالقوة الشاعرية التي يتميز بها امرؤ القيس يشار إليها بالبنان، ودليل شخصية عظيمة، وعقلية جبارة، وذكاء نادر، ولسان حاد،تُخاذل غيره عن طلب تحقيقها، أو ظنها مستحيلاً.

وجاء نُسب هذا اللقب بعد امرئ القيس إلى الشاعر الفحل المخضرم، أبي ذُؤَيب الهذلي خويلد بن خالد (؟ - 27 هـ) في كتاب " مسائل الانتقاد "يقول:" وأما أبو ذؤيبٌ فشديد، أمير الشعر حكيمهُ، شغله فيه التجريبُ حديثه وقديمه؛ وله المرثية النقية السبك، المتينة الحبك؛ بكى فيها بنيه السبعة، ووصف الحمار فطوَّل، وهي التي أولها:

أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ" (5).

ولم أجد في المصادر أحدًا منح اللقب لأبي ذؤيب غير أبي الريان، وبذا يكون تلقيبه به حقيقيًّا صادقًا لا تنظيريًّا خادعًا، وهو لقب أملته طبيعة الموقف، وسانده التواضع لا الترافع، والتماهي لا التباهي، حتى وإن لم يتفق على ذلك سدة الناس.

ومثل ذلك ما ذكره أبو زيد النميري (ت 262 هـ) أن الشاعر الكبير النابغة الذبياني (؟ - 18 ق. هـ) قلد إمارة الشعر للشاعر الكبير قيس بن الخطيم الأوسي (؟ - 2 ق. هـ) فقال:" فتقدم قيس بن الخطيم بين يديه فأنشد:

أَتَعرِفُ رَسماً كَاِطِّرادِ المَذاهِبِ لَعَمرَةَ وَحشًا غَيرَ مَوقِفِ راكِبِ

حتى أتى على آخرها فقال له النابغة: أنت أشعر الناس يا ابن أخي" (6).وهنا ألمَّ بخاطري تساؤل، كيف اتخذ النابغة هذا الموقف؟ ولم انساق وراء شاعرية قيس دون غيره؟ وكيف أبدى رأيه؟ وهل رأى أشعر من قيس، أم أن هناك معايير دقيقة كانت متبعة حتى يُحكم له بالإمارة، أم أنها أهواء وآراء تبعثها طبيعة الموقف، وتحكمها نوعية العلاقة، وتضطرها الحاجة؟

وحين يحكم الأب بإمارة الشعر لابنه، فإن ذلك مدعاة للتريث في قبول الحكم، لاستناده إلى أمور تستجلب العاطفة، وتبعد الموضوعية، وهنا لا يتجرد الأب غالبًا من ذاتيته، فيرضخ لعوامل قد نجهلها تضطره إلى ذلك، وسواء كان هذا أو ذاك فإن القدرة اللغوية، والمقدرة الشعرية هي من تتحكم باللقب لا الأمور الذاتية والعاطفية، وقد قلد عبد الله بن العجاج ابنه رؤبة (؟ ـ 90) شرف هذا اللقب فقال عن نفسه ": أول رجز قلته أني خرجت مع أبي نريد سليمان بن عبد الملك حين قام، فجعل يهمهم يقول الرجز، فهمهمت ثم قلت: يا أبة قد قلت رجزًا،قال: هاته فأنشدته:

كَم قَد حَسَرنا مِن عَلاةٍ عَنسِ

كَبداءَ كَالقَوسِ وَأَخرى جَلسِ

إلَى اِبنِ مَروانَ قَريعِ الإِنسِ

وَاِبنَةِ عَبّاسِ قَريعِ عَبسِ

أكرم عرس جبلا وعرس

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير