وروي أن الرسول:= أمر في دية الجنين بغُرّة، فقال أحدهم: يا رسول الله! أأدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يُطل، فترك رسول الله:=جانبا، واتجه إلى المتكلم، فأنكر عليه أسلوبه ومنطقه، وقال له: "أسجعاً كسجع الكهان"؟!.وما أنكر الرسول:=هذا القول إلا لأن صاحبه آثر السجع المتكلف وابتعد عن سهولة الأسلوب وسلاسته، وانطلاقا من مبدأ السلامة في التعبير والسلاسة في القول، والبعد عن التكلف والغلو والتشدق، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون"، ويقول: "إياكم والتشادق"، ويقول: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها".
ولم يقف نفقد الرسول للشعر والنثر عند حدّ النقد العلمي الذي أوردناه منه آنفا بعض الأمثلة، بل كان الرسول كثيراً ما يتعدى ذلك إلى لون آخر من النقد، وهو النقد التوجيهي، الذي يتمثل في إرشاد الأدباء والشعراء وتوجيههم إلى ما يحسن به أدبهم، ويرتفع باتباعه شعرهم، من تلك الأقوال والنصائح، حتى يُعينهم اتباعها على تحسين أعمالهم، وبلوغها حدّ الكمال والجمال الأدبي، من ذلك ما أوردنا آنفاً من نصائح، يضاف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله وجه رجل أوجزَ في الكلام، واقتصر على حاجته".وقوله:=لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف".
ومنها قول:=: "لا تكّلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوهم أصلها فتظلموهم".وفي أقوال الرسول:=السابقة - بما تحمل من توجيهات وإرشادات - نقدات أدبية غاية في الأهمية، فهي تدعو إلى الصدق في القول، وعدم التكلف والغلو فيه كما تدعو إلى ترك التظاهر بالبلاغة والتشادق بالفصاحة، وترك السجع المتكلف؛ لأن هذه الأمور الأخيرة المنهي عنها، قد تبهم المعنى، وتضيع الحقيقة، وقد تلبس الباطل ثوب الحق.
هذه النقدات الأدبية بشقيها: الفعلي والتوجيهي، التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعراء والأدباء، والتي وقفنا على طرف منها فيما أوردنا من أمثلة - هذه النقدات تمثل تطوراً لتلك المحاولات النقدية التي بدأت منذ العصر الجاهلي، وهي محاولات تعتمد على الذوق والفطرة والطبع وصِحة الفهم وسَعة الرواية، والخِبرة المستفادة من المعارف العامة، مستظلة بروح الدين وتعالميه وآدابه، متجهة إلى اللفظ والمعنى والأسلوب والغرض.
كما يلاحظ - أيضاً - من نقد الرسول الكريم استعمال المصطلحات النقدية؛ فلأول مرة تستعمل في محيط النقد الأدبي ألفاظ تتصل بهذا الفن، لتدل على سير هذا الفن خطوات إلى الأمام، فاستعمل لأول مرة لفظ (البيان) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً"، ولفظ البلاغة مشتقاً منه لفظ (البليغ) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها"، والرسول يعني بالبليغ: الذي يتقن الصنعة بقصد تزوير القول.
ونظرة إلى الأحكام النقدية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء نرى أنها أحكام اتسمت بالعموم والإيجاز، كإعجابه بقول لبيد، وطربه لشعر النابغة الجعدي، واستحسانه لبيان عمرو بن الأهتم، وتعديله للمعاني التي أتى بها كل من كعب بن زهير، وكعب بن مالك، من تلك النقدات التي عرضناها من قبل.
كما يلاحظ القارئ أنها أحكام اتسمت بالجزئية، فنقده صلى الله عليه وسلم كان متجهاً إلى اللفظ أو المعنى دون غيرهما من الجوانب النقدية الأخرى، فإعجابه بقول لبيد كان متجهاً للمعنى، فالمعنى عند لبيد جميل وشريف لانسجامه مع الروح الإسلامية، وكذلك طربه لمعنى النابغة يجري مع غاية ما يطمح إليه المؤمن، حينما جعل نهاية مطمحه الجنة.
واستحسان الرسول لبيان عمرو بن الأهتم في قوله عن الزبرقان بن بدر راجع إلى ما يحويه من رائع اللفظ وحسن البيان، وتعديله لشعر كعب بن زهير وشعر كعب بن مالك منصرف إلى المعنى، حيث وجههما الرسول إلى ما ينبغي أن يكون عليه المعنى من تلاق مع الروح الإسلامية، فسيوف الله أكثر اتساقاً مع روح الإسلام من سيوف الهند، والمجالدة عن الدين أحسن وأفضل من المجالدة عن الأصل والنسب.
كما أن استهجان الرسول لقول بعضهم وقد غلب عليه السجع المتكلف راجع إلى اللفظ، حيث وجهه الرسول إلى ما ينبغي أن يكون عليه النظم من سلاسة في التعبير، وسلامة في المنطق، بعيداً عن السجع المتكلف، والتشادق المقصود، وهكذا.
(منقول بتصرف)
ـ[صاحبة القلم]ــــــــ[16 - 02 - 2008, 02:36 م]ـ
بارك الله فيك أستاذنا القدير على بديع ما نقلتم ..
أبقى الله فصيحنا عامرا بإبداعاتكم ..
سلمت يمناك.
دمتم بتميز.