ونحاول عبر متابعة هذه الاستراتيجيات الإجابة على سؤالين هما: كيف وظف الشراح المظهر الدلالي للمعنى لصالح منظوراتهم في القراءة؟ و هل تجاوز الشراح مرحلة الفهم الى التفاعل الجمالي مع النص من خلال علاقته بمرجعه الواقعي؟
و سنتناول أثر هذه الاستراتيجيات في التفاعل من خلال مفهوم المعنى بوصفه محوراً لتجربة القراءة كما في منهج القارئ المخبر، حيث ينتج المعنى وفق العلاقات التركيبية بين وحدات النص اللغوية الصغرى، و بمراعاة الاتجاه السطري لتلك الوحدات عبر الاتجاه الزمني للمعنى كخطوة منهجية.
و من نظرة عامة يمكن استنتاج ان المفهوم الدلالي للمعنى في حدود مرجعه الواقعي قد ضيق حدود القراءة الجمالية لدى الشراح، لا سيما ان أحد معايير القراءة الجيدة في النقد التقليدي القديم هو عدم مخالفة المعايير الموضوعة المتضمنة في عمود الشعر. بل عدم الخروج عن معطيات العالم الواقعي عبر صور خيالية بعيدة عن المألوف. القراءة المرجعية " قراءة تنفتح عن أفق انتظار جاهز يسعى بكل مكوناته إلى ربط النص باللغة اليومية و التقاليد الأدبية المتداولة، ثم إلى اعتبار هذا النص محيلا إلى جزئيات الوقع و معطياته " المختارات 341
" إن الاعتقاد الراسخ لدى القراءة المرجعية بأن لغة الشعر لغة تمثيلية و أمينة، يجعلها قراءة متفاعلة مع البعد الحرفي و المعجمي للوحدات التركيبية، و مع ما قد يوجد في الدلالة الفنية من سمات واقعية وقيم متداولة، فيصبح هذا البعد الحرفي تراكما لغويا نفسر في ضوئه كل انتاج فني، و تصبح سمات الواقع وقيمه تقاليد متوارثة يجب الحفاظ عليها و إعادة صياغتها في أمانة. و لذلك فإن الموروث اللغوي، و الواقعي هما المكونان الأساسيان لأفق انتظار القراءة المرجعية، أي أنها قراءة تتفاعل بالموروث اليومي في مستوى اللغة وفي مستوى الواقع ". (المختارات الشعرية 360)
3 - بناء التآلف:-
يعد تماسك التجربة و تآلف أجزائها دلالة جمالية مهمة على فعالية القراءة، ويعتمد منهج الشرح الشعري على مفهوم المعنى لمراقبة هذا التآلف، حيث وضعت استراتيجيات المعنى في الشرح بحيث تتيح للشارح مراقبة تجربته ليقدم تجربة متماسكة مقنعة، وذلك عن طريق تقسيم النص إلى وحدات تركيبية صغيرة هي الأبيات، وبذلك يسهل مراقبة خطوات تجربة القراءة التي تسير باتجاه وحدات النص وتتطور مع كل وحدة تضاف إلى تجربة القراءة.
و في شروح سقط الزند يمثل التفاعل الجمالي المثالي مع أسلوب أبي العلاء هدفاً للقراءة و محوراً لها، ويرجع ذلك إلى خصوصية المشكلات الجمالية التي يثيرها شعره، و لذلك يبحث الشراح عن تماسك التجربة من خلال علاقة التوافق بين أسلوب أبي العلاء و بين مرجعياتهم من معايير النظام الجمالي للنصوص الشعرية كما يرسخها الإطار النقدي المحيط بلحظة القراءة، و التي تتشكل منها منظورات القراءة في الشروح.
حيث تعتبر هذه المعايير وسيلة لتنظيم التجربة في منهج القارئ المخبر، تجعل التجربة قابلة للوصف، ((فإذا ما كان متكلموا لغة معينة يشتركون في نظام من القوانين يستبطنها كل واحد منهم، ويفهمها بطريقةأو بأخرى، فسوف تكون بمعنى معين منتظمة، أي سوف تسير بموجب نظام من القوانين يشترك فيه جميع المتكلمين، وبقدر ما تكون تلك القوانين تقييدات على الانتاج، ...... فسوف تكون أيضاً تقييدات لنظام الاستجابة وحتى لاتجاهها، بمعنى أنها ستجعل من الاستجابة قابلة - إلى حد معين – لأن يتنبّأ بها وتجعلها معيارية)). [نقد استجابة القارئ – 163]
و يتطلب تماسك التجربة التفاعل المتبادل بين القارئ و النص، ((حيث يقوم النص بمجموعة من التوجيهات تقود القارئ نحو تجميعه للمعنى من أجل نفسه، وبهذا العمل فإنه يبلغ قدرا من المعلومات، ولكنه يستدعي ايضا التجارب المختزنه من قبل في ذهن القارئ الخاص)) * (من قضايا التلقي والتأويل –223)
و قد يحدث تعارض بين توجيهات النص و منظورات القارئ، و هنا يحدث الخلل في تماسك تجربة القراءة، و يحاول القارئ مواجهة ذلك الخلل في سبيل بناء تجربة مقنعة من خلال تآلف النص مع منظوراته للقراءة، و ذلك عبر استراتيجيات متعددة.
¥