أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا: الثناء على يوسف عليه السلام، وبيان فضله، وقوة صبره وحزمه، حيث إنه لما جاءه رسول الملك، آذِناً له بالخروج، لم يبادر إلى الخروج ـ كما هو مقتضى الطبيعة ـ مع أنه مكث في السجن بضع سنين، بل قال: (ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) [يوسف: 50]، قال ذلك: حتى تظهر براءته وتتبين مظلمته، فيخرج خروج من له حجة، لا خروج من قد عُفي عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه وأدباً: (لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف؛ لأجبت الداعي) أي: لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولما قدمت طلب البراءة.
هذا هو معنى الحديث عند أهل العلم، كابن قتيبة (59)، والطحاوي (60)، والخطابي (61)، والبغوي (62)، وابن عطية (63)، والمزري (64)، والقاضي عياض (65)، وابن الجوزي (66)، والنووي (67)، والأبيّ (68)، وابن حجر (69)، وابن عثيمين (70)، وغيرهم (71).
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) [يوسف: 50]: " يقول تعالى إخبارًا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه، التي كان رآها، بما أعجبه وأيقنه، فعرف فضل يوسف عليه السلام، وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه، وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه، فقال: (ائتوني به) أي: أخرجوه من السجن وأحضروه. فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه، مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه، بل كان ظلما وعدوانا، قال: (ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) وقد وردت السنة بمدحه على ذلك، والتنبيه على فضله وشرفه، وعُلُوّ قدره وصبره، صلوات الله وسلامه عليه" (72). ثم ذكر هذا الحديث.
وختاماً .. فإن الكردي يصف الحديث بأنه مظلمٌ! فيقول: " إنه حديث مظلمٌ بعيد عن نور النبوة، وهذه علة قادحة في متنه تكفي للحكم بعدم صحته".
وقد اتضح معنى الحديث ولله الحمد بما لا يتوهم معه الانتقاص من قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل هو من باب بيان فضائلهم عليهم السلام، وعلو منزلتهم عند الله تعالى.
وهذا المعنى المذكور في هذا الحديث؛ مذكورٌ في عدد من الآيات التي هي نور من الله تعالى، قال تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) [الأنبياء: 87].
وقال تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) [هود: 46].
فأيهما أشد استبعاداً في عقل الكردي، ما جاء عن لوط عليه السلام في هذا الحديث أم ما ورد في هذه الآيات!!. وهل يجرؤ الكردي أن يصف ما ورد في هذه الآيات وأمثالها بأنه مظلم!، وقد قال تعالى: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين) [المائدة: 15].
ولكننا نقول صدق الله إذ يقول: (ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور) [النور: 40].
فجر الخميس: 12/ 11 / 1428هـ
ـــــ حواشي ــــــــــــ
(1) رواه البخاري في الأنبياء: باب قول الله عز وجل: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) [الحجر: 51]: (12/ 42): رقم (3372)، وفي التفسير: باب قوله: (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك) [يوسف: 50]: (15/ 337) رقم (4694) وليس فيه لفظ الشك، ومسلم في الإيمان: باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة: (1/ 481) رقم (399) وفي الفضائل: باب من فضائل إبراهيم الخليل: (15/ 427) رقم (6291).
(2) يلاحظ طعنه هنا في أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: (193 ـ 194).
(4) تفسير القرآن العظيم: (1/ 698).
(5) انظر: التوقيف على مهمات التعاريف: (436)، التعريفات للجرجاني: (168).
(6) تفسير البيضاوي: (1/ 167).
(7) جامع البيان: (10/ 9).
(8) البيان لمشكلات الحرية أو الطوفان: (5).
(9) انظرهما في: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين: (409 ـ 410) وقد استفدت من هذا الكتاب كثيراً.
(10) تفسير القرآن لابن عثيمين: (3/ 299 ـ 300).
(11) المحرر الوجيز: (2/ 303).
¥