تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[التفسير والإفتاء دون ضوابط- جمال البنا نموذجا]

ـ[إبراهيم عوض]ــــــــ[25 Dec 2007, 02:58 م]ـ

هناك ضوابط ينبغى أن يتقيد بها من يتصدى لمهمة التفسير والإفتاء، وقائمة طويلة من العلوم والمعارف لا بد له منها لفهم النص القرآنى وتذوقه، وفى ضوء هذا وذاك نستطيع أن نفهم ما يُتَّهَم به أحيانا "التفسير بالرأى". وأساس هذا ما يُرْوَى عنه صلى الله عليه وسلم من أنه "من تكلم فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"، وهو الحديث الذى لا يمكن استغناء مَنْ ينظر فيه مِنَ استصحاب الحديث الآخر الذى يقول: "من تكلم في القرآن بغير علم فقد أخطأ، وإن أصاب"، أو ذلك الذى يقول: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار". وقد نظرت فى هذه الأحاديث من ناحية التمحيص والتخريج، فظهر أن الأول منها غير موجود فى الموسوعة الحديثية المسماة: "الدرر السنية": لا فى الأحاديث الصحيحة ولا الضعيفة ولا الموضوعة، كما أن الحديث الثالث قد حُكِم عليه مرة بأنه "حسن صحيح"، ومرة بأنه "حسن"، وسبعا بأنه "ضعيف"، وذلك حسب سلسلة الإسناد التى رُوِىَ من خلالها، أما الثانى فقد قيل فى حقه إنه إن لم يكن من جهة السند صحيحا فهو صحيح رغم هذا من جهة المعنى. ولسوف أتصور أن كل تلك الأحاديث صحيحة صحة مطلقة ثم ننظر فيها على هذا الأساس لنرى أبعادها ومدى دقة فهمنا لها. ذلك أن كثيرا من الناس يظن أنها تدين تشغيل العقل وحرص الإنسان على أن يكون له رأى فى فهمه للقرآن. فهل من الممكن أن يثنى الرسول على من ليس عنده رأى، ويرفض أن يكون عنده رأى، مُؤْثِرًا عليه من يردد ما يسمعه من مأثورات فى عالم التفسير إيثارا شديدا؟

المعروف أن الرسول الكريم يكره للرجل أن يكون إِمَّعَة، أى لا رأى له ولا موقف نابع من عقله وقلبه وضميره، بل كل همه متابعة الناس على ما يقولون ويعملون دون تفكير. لكن قد يردّ البعض بأن المسألة هنا لا تتعلق برأى الناس الذى ينبغى أن يزنه الشخص قبل أن يتابعهم عليه، بل بأقوال الرسول فى تفسير القرآن. وجوابنا على هذا هو أن الرسول لم يترك لنا تفسيرا كاملا للقرآن، بل لبعض آياته فقط. وفوق هذا فالتفسيرات التى تركها لنا صلى الله عليه وسلم مختصرة جدا فى العادة، فماذا نفعل فى بقية القرآن إذا أردنا أن نفسرها؟ هل نتركها دون تفسير ما دام لم يصلنا عن الرسول فيها شىء؟ وحتى بالنسبة إلى الأحاديث التى وصلتنا عنه صلى الله عليه وسلم هل من الممكن أن يخرّ الإنسان عليها خُرُورًا دون أن يتأكد أنها أحاديث صحيحة؟ وهذا التأكد أليس هو إعمالا للرأى؟ ثم أليست هذه الأحاديث بحاجة إلى أن يفهمها ذلك الشخص؟ أوليس الفهم هو أيضا لونا من إعمال الرأى؟ ولقد رأينا أن تفسير القرآن يحتاج إلى ألوان مختلفات من العلوم والفنون والمعارف والتخصصات، وبخاصة فى عصرنا هذا حيث بلغ التقدم العلمى والفنى مبلغا هائلا مما يوجب التدرع لهذه المهمة بما لم يكن فى طوق السابقين ولا فى خيالهم، فما بالنا بالعصور المقبلة التى سوف يتقدم العلم فيها تقدما يدير الرؤوس ويشده العقول والنفوس؟ فالاطلاع على تلك العلوم والفنون والإلمام بها ومحاولة تطبيقها على النص القرآنى بغية فهمه وتذوقه، ألا يُعَدّ هذا إعمالا للرأى؟

حتى الطبرى أحيانا ما نجده، فى تفسيره الذى اشتهر بأنه إمام كتب التفسير بالمأثور، يوازن بين الروايات التى وصلته عن الرسول والصحابة والتابعين ليرى أيتها صحيحة، وأيتها غير ذلك، ومن ثم يختار ما يطمئن إليه ويترك ما سواه، مُعْمِلاً خلال ذلك كله عقله، معتمدًا على معارفه ثم مُدْلِيًا فى نهاية المطاف برأيه. وقد نبه إلى هذا فضيلة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور فى كتابه: "التفسير ورجاله" فقال: "وهو في كثير من صور انتقاده للأحاديث المسندة قوي الاعتماد على الفقه وملاءمة الآثار من الأقوال، فكثيرا ما يَرُدّ حديثًا في تأويل آية بأنه خلاف ما تقرر عند الفقهاء من الحكم. كما أنه في صور أخرى قويُّ الاستناد إلى ما بين النحويين من كلام في تخريج التراكيب وما تجاذبوه من نظر في تأويل شواهدها. وكثيرًا ما يجعل التخريج النحوي الراجح توجيهًا للقراءة وبيانًا لأولويتها، ويستخرج من رجحان القراءة وتوجيهها اختيار المعنى أو الحكم الذي يأخذ به، تبعًا لاختيار القراءة واختيار الوجه النحوي الذي خرجت عليه، فيقول: "وأَوْلَى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير