[معنى النسخ عند السلف والخطأ في فهمه]
ـ[فهد الوهبي]ــــــــ[23 Oct 2007, 10:45 ص]ـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ..
فإنه من المهم العناية بمعرفة مصطلحات السلف رحمهم الله، ليكون طالب العلم عارفاً بمقصودهم وحتى لا يقع في محاكمة كلامهم على اصطلاح حادث بعدهم، ومن تلك المصطلحات التي وقع فيها الخطأ في فهم كلام السلف رحمهم الله مصطلح النسخ، فأحب هنا أن أذكر معناه عندهم مع التمثيل لذلك اسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح ..
النسخ في اصطلاح المتقدمين معناه: البيان.
فيشمل تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل، ورفع الحكم بجملته وهو ما يعرف ـ عند المتأخرين ـ بالنسخ (1).
وسبب إطلاقهم النسخ عليها:
أنها تشترك في أن جزءاً من تلك النصوص لم يكن معمولاً به؛ فأشبهت النسخ من جهة كون الحكم فيه غير معمول به.
وإيضاح ذلك:
أن النسخ عُلم فيه أن النص الأول لم يكن مطلوباً ولا معمولاً به، وهذا المعنى جارٍ في تقييد الطلق؛ فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمول به هو المقيد، فصار مثل الناسخ، وصار المطلق مثل المنسوخ.
وكذلك العام مع الخاص إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ، وأشبه العام المنسوخ، إلا أن لفظ العام لم يُهمل جملة واحدة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص.
وكذلك المجمل متروك العمل به إلا بعد البيان، فأشبه المنسوخ من جهة تركه، وأشبه البيان الناسخ من جهة العمل به (2).
قال ابن القيم: " قلت: ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ: رفع الحكم بجملته تارة ـ وهو اصطلاح المتأخرين ـ ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد.
فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو: بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارجٍ عنه ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر " (3).
وقال الشاطبي (ت: 790 هـ): " وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخاً" (4).
وأشار إلى هذا المعنى بعض علماء علوم القرآن والمفسرين:
قال السخاوي (ت: 643 هـ): " فإن قولنا: نسخٌ وتخصيصٌ واستثناءٌ؛ اصطلاحٌ وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يسمي ذلك نسخاً " (5).
وقال: " وإنما وقع الغلط للمتأخرين من قبل عدم المعرفة بمراد المتقدمين، فإنهم كانوا يطلقون على الأحوال المتنقلة النسخ، والمتأخرون يريدون بالنسخ نزول النص ثانياً رافعاً لحكم النص الأول " (6).
وقال: " وهذا مما يوضح ما قلته من أنهم كانوا يُطلقون النسخ على غير ما نطلقه نحن عليه ... فلا تغتر بقولهم: منسوخ؛ فإنهم لا يريدون به ما تريد أنت بالنسخ" (7).
وقال القرطبي (ت: 671 هـ): " والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخاً توسعاً وتجوزاً " (8).
وقال الزركشي (ت: 794 هـ): " وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل ... وأما غير ذلك فمن تحقق علماً بالنسخ عَلِم أن غالب ذلك من المنسأ، ومنه ما يرجع لبيان الحكم المجمل ... وكل ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم القرآن ... وأما بالقرآن ـ على ما ظنه كثير من المفسرين ـ فليس بنسخ، وإنما هو نسأ وتأخير، أو مجمل أُخِّر بيانه لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص، أو لمداخلة معنى في معنى، وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخاً وليس به " (9).
¥