تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بينما النص الإخباري هو نص تاريخي، أي أنه ابن زمن حدوثه، فهو نص لازم يتعلق بما أورد من وقائع وأحداث، لا يتعدى إلى وقائع وأحداث غير ما ورد به، ولا يحكم أحداثا أو أشخاصا غير من اشتملهم ببيانه، وهو من جهة أخرى يصدر في الحاضر الذي صيغ فيه، وتنصرف آثاره ودلالته إلى الماضي الذي سجله، والذي يكون تم من قبل، فهو نص عيني تنحصر دلالته ومفاداته على ما شمله من واقعه ومن شملهم من أشخاص، وهو نص "بعدي"، أي أنه نتج وصدر بعد الحدث الذي يدل عليه، وليس شأنه في ذلك شأن النص التشريعي الذي يصدر قبل الحدث الذي يدل عليه.

وهذه الفروق في طبيعة كل من النصين أنتجت فروقا كبيرة فيما يتعلق بمنهج تناول أي منهما وطريقة التعامل معه، ونحن في عملنا القانوني التطبيقي ننزل حكما واردا بنص تشريعي على واقعة أو تصرف وارد بنص إخباري.

النص التشريعي هو نص نموذج، ودلالته معدة لكي تكون قابلة للتكرار، وآثاره معدة لتكون عابرة للزمن، لذلك يتضمن القدر اللازم من التعميم والتجريد، وأن يصدق على الأفعال المشار إليها فيه بأوصافها لا بأعيانها، وأن يصدق على الأفراد الذين يلحقهم حكمه بأوصافهم لا بذواتهم، ومن هنا كان أول درس يتلقاه طالب الحقوق عن نظرية القانون هو أن القاعدة القانونية لا بد أن تكون عامة ومجردة، بمعنى أنه يتعين أن تعالج بطريقة تجعلها تسري على الأحداث والأشخاص بموجب ما يتوافر في أي من ذلك من وصف موضوعي، والنص هنا هو حكم يتعلق بأمر أو نهي أو بوضع مثل "كلما جرى كذا وجب أن يحدث كذا"، فهو يضع شرطا لتصرف أو يرتب نتيجة على تصرف، بغض النظر عن ذوات الأفراد وعينيات الأفعال.

والنص التشريعي بذلك يصوغ نموذجا قابلا للتكرار، وإن لم تكن فيه هذه القابلية فهو لن يكون نصا تشريعيا، وهو لن يكون كذلك إلا باشتماله على عنصر يتوافر مع توالي الزمن وتكراره، وأن يكون عنصرا حاضرا في الأزمان التالية، يؤثر في غيره ويتأثر به، مثل "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"، "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير"، ومثل ما يرد بالقانون الوضعي "كل من اختلس منقولا مملوكا لغيره فهو سارق"، "يعاقب بالحبس مع الشغل على السرقات التي تحصل في مكان مسكون"، "لا يجوز أن تزيد ملكية الشخص من الأراضي الزراعية على خمسين فدانا"، "كل عقد يترتب عليه مخالفة هذا الحكم يعتبر باطلا"، "كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض، عن الضرر الذي لحق بالمضرور".

النص هنا صيغ صياغة تجعله نموذجا لحالة وليس حالة بعينها، وهو بحسبانه نموذجا يكون قابلا للتكرار على كل ما يحدث من وقائع وتكون اتصفت بالأوصاف والأوضاع الواردة بالنص، ونحن عندما نتعامل مع مثل هذه النصوص يقابلنا نوعان من الأسئلة، نوع ينظر إلى عبارات النص وألفاظه أي إلى هيكل النموذج المعد وسمته ورسمه، ونوع آخر ينظر إلى الوقائع أو التصرفات أو الحالات التي تعرض على النص، أي إلى المادة التي سيتعامل معها النموذج.

ففي النوع الأول من الأسئلة، عن تحريم القرآن الكريم للخمر، يقابلنا السؤال عما هو الخمر وما هو الميسر وما هو الرجس وما هو الاجتناب، وفي قانون العقوبات يقابلنا السؤال عما هو الاختلاس، ما هو المنقول وما هو المملوك ومن هو الغير، وفي قانون الإصلاح الزراعي يقابلنا السؤال عمن هو الشخص وما هي الملكية وما هي الأرض الزراعية، وكلها من أسئلة النوع الأول التي تتعلق بدلالات ألفاظ النص وعباراته، وباستنباط ذلك من المعاني اللغوية ومن المعاني الاصطلاحية التي يعبر بها أهل كل علم أو حرفة، وكذلك مما جرت به أعراف التعامل والتفاهم بين الناس في كل صقع أو زمان، ونحن في إدراك هذه المعاني نكون ما زلنا نقف عند حدود نص جامد نتفهم دلالته في ذاته فقط، سواء باستنباط المعاني من مقتضياتها أو باستقراء دلالتها من سوابق ما اشتملت عليه من حالات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير