تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا عن وجه الثبات في النص التشريعي، وأما ما يتعلق بتعامله مع الواقع المتغير فإن هذا الوجه من وجوه منهج التفسير هو ما يكسب النص الثابت حركيته وفاعليته، وذلك بالخاصية الأولى التي ذكرتها، وهي أن النص معد في صياغته لأن يتجاوز زمن صدوره بما يلاحق ما يستجد من حالات، وهو معد لأن يتجاوز حدود ألفاظه لكي ينسحب على حالات ذات تنوع، وكل ذلك يجري بمناهج عقلية اجتهد رجال المنطق وعلماء أصول الفقه وفقهاء التفسير لأن يضعوا لها الضوابط والحدود.

لقد وضعت مناهج لتفسير النص التشريعي بما يمكن من تطبيقه على الواقع المتغير وعلى الحالات المتنوعة، ولهذا الأمر مناهجه في الفقه الغربي، مما ينقسم إلى مدارس ومذاهب، فيقال مدرسة الشرح على المتون والمدرسة التاريخية والمدرسة الاجتماعية وغير ذلك، وأساس الخلاف بينها في ضبط المنهج يتعلق بثبات النص ومحدودية معانيه الواردة بألفاظه وعباراته وبتغير وقائع الزمان والمكان وتنوع الحالات .. وفي فقه الشريعة الإسلامية وضعت مصادر لاستخراج الأحكام مثل القياس وضوابطه الذي يضيف إلى الحالات المنصوص عليها حالات أخرى وكذلك المصالح المرسلة التي تشغل من المجالات ما يقع بين المأمور به والمنهي عنه وما يقارب كلا منهما، وكذلك الاستصحاب والاستحسان لمن يقول به وغير ذلك، كما وضعوا مذاهب في تخريج الأحكام من خلال عباراتها ولاستقراء القواعد الشرعية العامة من الأحكام التفصيلية إدراكا للمقاصد العامة الهادية في التفسير وغير ذلك، ولا أريد أن أزيد في أمر يدخل بنا إلى ما يخرجنا عن السياق العام الذي نحاول رسم خطوطه العامة.

والذي أريد أن أشير إليه في هذا الحديث أن النص التشريعي له اتصال مباشر بزمان التطبيق، وليس بزمان الإصدار فقط، بل إن اتصاله بزمان التطبيق أكثر وثوقا من اتصاله بزمان الإصدار، ونحن كلما أعملنا حكمه في حالة عرضت في لحظة زمانية ما .. كان هذا النص ليس ابن الزمن الذي صدر فيه بقدر ما يكون ابن الزمن الذي أعمل فيه؛ لأنه ليس ماضيا ولى، ولكنه حاضر في هذا الزمن الذي نزلت فيه النازلة التي استدعت تطبيقه عليها، وإن أي واقعة تحدث في تاريخ معين يمكن أن تتجمع في حكمها مجموعة من النصوص وليس نصا واحدا فقط، فواقعة قتل شخص مثلا في سنة 2007 يحكمها قانون العقوبات الصادر في 1937 بالنسبة للجريمة وقانون الميراث الصادر في 1943 بالنسبة لواقعة الإرث واقتسام المال الموروث، وقوانين المعاشات والتأمينات الصادرة في 1975 مثلا أو ما بعدها بالنسبة لما يصرف لأولاده القصر وزوجته من معاش.

وهكذا، وكل من هذه القوانين صدر في وقت مختلف عن وقت صدور الآخر، ولكنها تجتمع في حكم الواقعة بصرف النظر عن تاريخ صدور كل منها، وهي تجتمع على ذات المستوى من الفاعلية بحسبانها كلها قوانين الحاضر بالنسبة للواقعة التي حدثت في 2007 مثلا، وأن أحكامها بحسبانها من "حاضر الواقعة" تتداخل في التفسير وتبين الدلالات.

وهذا النص التشريعي يتجدد تطبيقه وتتجدد دلالاته، وهو بتنوع الحالات التي تعرض له في التطبيق تغتني معانيه وما يستفاد منه من أحكام، وإنه مثل الكائن الحي الذي تكسبه الحركة والتعامل خصوبة وخبرة وثراء في الأثر والدلالات، وفي العمل القانوني التطبيقي نلحظ نصوصا تصير ثرية جدا وخصبة جدا في معانيها، ويمكن أن يوضع في تفسيرها ما لا يكاد يحصى من الشروح، نلحظ ذلك مع طول المعايشة في العمل التطبيقي حتى في داخل القانون الواحد، وذلك بسبب كثرة تعامل الناس بما يخضع لها من أحكام، نتيجة أوضاع اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، والكثرة تفيد التنوع وكثرة التداخل بين الأنشطة وتستثير الالتباس والعمل على إعادة الضبط والتحديد، وتستثير الأذهان لتبيين الضوابط والفروق وتحديد الآثار المترتبة على الوقائع والتصرفات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير