تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهناك نسبة أخرى من ضمن الـ %3 هذه، يرفضها الكاتب لأنها تقع في سياق الطبيعة البشرية التي يبدو أنه يتصور أن الأنبياء -ومَنْ حول الأنبياء أيضاً- منزَّهون عنها .. وهذا شأنه أيضاً .. وليس شأن البخاري من قريب أو بعيد ..

عدد آخر من الأحاديث، لم تعجب هذا الكاتب، إما لأنه لم يفهمها كما يجب، أو لأنها لم تعجبه دون سبب واضح .. مثال على ذلك رفضه لحديث «قال الله عز وجل أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. الحديث»، لماذا يا تُرى؟ .. لأنه يقول إن هذا يتناقض مع وصف الجنة الموجود في أحاديث أخرى كثيرة .. لا يبذل الكاتب محاولة واحدة للجمع بين الأحاديث، أو لملاحظة الجانب «التجريدي» في الوصف الذي يشير إليه الحديث، يرفض الكاتب الحديث، ويعتبره وصمة مزعومة في جبين البخاري ..

وهكذا، فإن معظم اتهامات الكاتب ستسقط، لتبقى بضع ملاحظات لا أكثر، بنسبة إحصائية أكثر إهمالاً، وهي ملاحظات اشتغل عليها أهل العلم قديماً وحديثاً، في سياق علمي جاد بعيد عن التصريح والسطحية، وبعضها ملاحظات تخرج عن إطار عمل البخاري، إلى إطارات أوسع، وتتعلق بالأخذ بحديث الآحاد وموقعه في الفقه والعقيدة .. وهو موضوع عميق وشائك، ولا يمكن تحميله على عاتق البخاري ..

جناية الشافعي، كما يسميها الكاتب، من نفس الطراز، ليست سوى ملاحظات متناثرة هنا أو هناك، قلما تخص علم الأصول الذي أسسه عن حق الإمام الشافعي، بل هي مجرد ملاحظات على بعض فتاواه وآرائه الفقهية التي طُرحت ضمن سياقها التاريخي .. كما أنه يأخذ عليه أن تلامذته اشتغلوا على تعريف المصطلحات التي وضعها أكثر مما فعل هو، وهو أمر طبيعي، فمؤسس أي مذهب علمي أو فقهي، كما صاحب أي نظرية، لا يضع كل تفاصيلها، بل يضع خطوطها العامة ولبنتها الأساسية، التي تفرز التفاصيل بالتفاعل مع المحيط ومع تحديات المحيط، ومن خلال أشخاص آخرين آمنوا بالخطوط العامة .. يستوي في هذا الشافعي مع أبي حنيفة ومالك وابن حنبل، وهو السبب في أن علماء آخرين، وضعوا خطوطاً عامة لا تقل أهمية, لكن نظرياتهم لم تتحول لتصير مذاهبَ، لأنها لم تجد الحاضنة المناسبة لتحويل الخطوط العامة إلى بناء فقهي متكامل .. كما أن الكاتب في بلاغه ضد الشافعي، يقول إن أسلوبه ممل! .. وهو يتصور أن هذه تهمة شنعاء يستحق الشافعي أن يُحاكَم عليها! كما أنه يأخذ على الشافعي قوله في بعض كتبه «كما ذكر بعض أهل العلم» بدلاً من أن يعطينا قائمة بأسمائهم وعناوينهم ومتى بالضبط ذكروا ذلك، ولعل الكاتب يود من الشافعي أن يقدم لنا مراجعه حسب تصنيف ديوي! .. رغم أنه هو شخصياً يستخدم أسلوباً مشابهاً، أو أقل علمية، فيقول «كما جاء في الأثر» دون أن يحدد أي أثر، ويكون أثراً ضعيفاً بالطبع، ولكنه يريد تمريره تحت شعار أنه «أثر» .. ويا سبحان الله، يكون هذا الأثر دوماً محتوياً على مطعن بواحد من الأسماء التالية «عائشة وعمر وعثمان وأبوهريرة!»، ولكن لا تسيئوا الظن ولا تتصوروا أن هناك رائحة طائفية في هذا. إنها العلمانية فقط، ممزوجة بالحرص على الدين والغيرة عليه من أئمته ورجاله ونسائه وحملة مشعله ورايته. وعلينا أن نمتلك ذلك المزيج من الغباء وحسن الظن لكي نصدق هذا مجدداً.

جوهر الأمر في الجناية المزعومة لكل من البخاري والشافعي، أن الكاتب يزعم أنه ينطلق من مسلّمة خاطئة، ثم ينتهي إلى اكتشاف أنها خاطئة, فيقيم الدنيا ولا يقعدها على هذا الأساس، كما لو أنه قد اكتشف نظرية جديدة تاهت عنها الإنسانية طويلاً .. هذه المسلّمة الخاطئة هي أن الشافعي والبخاري ليسا من البشر، وأنهما لا يخطئان. بعدها انطلق يبحث في الحواشي والهوامش عن خطأ .. فوجد هامشاً من الخطأ بنسبة إحصائية تكاد تكون مهملة .. لكنه يطير فرحاً بها كأنه فتح عكا .. وينتهي إلى «أنهم بشر» .. ويعتبر أن هذه الحقيقة يجب أن تغير التاريخ وتصدم البشرية جمعاء .. رغم أن بشرية البخاري والشافعي وسواهما أمر مفروغ منه .. ذلك أن انتفاء العصمة عن البشر واحدة من أعظم نقاط قوة الإسلام وواقعيته وتميزه، والظروف التي دفعت (فئة معينة) من أهل القبلة إلى إضفاء طابع القداسة والعصمة على بعض الأئمة هي ظروف خاصة وغير مبررة ولم تنطلق لتعمم على كل مذاهب أهل القبلة .. نعم، البخاري والشافعي ومسلم وأبوحنيفة كانوا بشراً .. ووجود الخطأ في الجهد البشري أمر حتمي ولا مفر منه .. وأي شيء غير ذلك سيكون موضع شك .. الأمر في الخطأ هو نوعه وكمّه .. هل نوعه في بنية العمل والخطوط الأساسية له .. أم أنه في تفاصيله، وهل كم الخطأ كفيل بنقض البنيان كله، أم أنه مجرد هامش خطأ مقبول؟ .. هذان السؤالان -مع الأخذ بنظر الاعتبار السياق التاريخي الذي طرحت فيه النظرية وبذل فيه هذا الجهد الإنساني- كفيلان بإسقاط كل التهم عن البخاري وعن الشافعي وعن سواهما من أئمة الفقه والحديث .. أو عن من لم يؤمن به .. جناية «بعض» العلمانيين، أنهم يستخدمون بالضبط الأساليب التي يتهمون فيها أعداءهم، أنهم يستخدمون شعارات الحرص على الدين والغيرة عليه، من أجل الوصول إلى ما يريدون (مثلهم مثل غيرهم!) .. وهذا يجعل مرجعيتهم مزدوجة ومرتبكة. وهو أمر غير باعث على الاحترام. ولكنه لا يعمم على كل العلمانيين، فهناك من العلمانيين من يربأ بنفسه عن الهبوط إلى هذا الدرك، وهذا أكثر جدارة بالاحترام بل وبالحوار، على الأقل مع العلماني الجاد الذي لا يستخدم الدين كشعار، هناك خطوط واضحة في الحوار يمكن أن تجعله مثمراً ..

أيها العلمانيون، كونوا علمانيين -أو لا تكونوا- لكن لا تكونوا هذا الـ «بين-بين» الذي لن يؤدي إلى أي مكان .. إلا إلى المزيد من الخيبة والفشل.

• كاتب عراقي مقيم بدمشق.

28/ 12/2007

http://alarab.televisual.co.uk/article.tvt?_scope=Alarab/Website/Website/Features&id=17063

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير