تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقال الإمام الترمذي: "وإنما تفاضَل أهلُ العِلْم بالحفْظ والإتْقان، والتثبُّت عند السماع، مع أنه لم يسلمْ من الخطأ والغلَط كبير أحَدٍ مِن الأئمة مع حفْظِهم" [7].

رابعًا: ضابط القول الشاذ:

القول الشاذ لا يكاد يخْفى على أحدٍ - ولله الحمد - ويتبيَّن بما يلي:

أ - القول الشاذ هو المخالف للدليل الشرعي من النص والإجماع:

وهذا من اختصاص أهل العلم، فهُم أعْرَف الناس بمُخالفة الدليل، ولهم في دلالة الدليل مؤلَّفاتٌ، بابُها علم أصول الفقه، ولهذا لا يحق لأحدٍ غير أهل العلم الحكم بأن قولاً ما مُخالف للدليل، ما لم يكن له إلمام بأنواع الأدلة وأقسام دلالة الألْفاظ.

ب - القول الشاذ ما أوجد حيْرةً واضطرابًا وتردُّدًا في قلب المؤمن:

لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الإثمُ ما حاك في صدْرك، وكرهتَ أن يطلعَ عليه الناسُ))؛ رواه مسلم، وفي رواية لأحمد: ((وإنْ أفتاك الناس)).

قال ابن رجب - رحمه الله - تعليقًا على هذا الحديث: "فهذا يدلُّ على أنَّ الحقَّ والباطل لا يلتبِسُ أمرُهما على المؤمن البصير، بل يعرف الحقَّ بالنُّور الذي عليه، فيقبله قلبُه، ويَنفِرُ عن الباطل، فينكره ولا يعرفه" [8].

وقال أيضًا: "وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة: ((وإنْ أفتاك المفتون) يعني: أنَّ ما حاك في صدر الإنسان فهو إثمٌ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ، فهذه مرتبةٌ ثانيةٌ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكرًا عندَ فاعله دونَ غيره، وقد جعلَه أيضًا إثمًا، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرُّخص الشرعية؛ مثل: الفطر في السفر، والمرَض، وقصر الصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به" [9].

ج - القول الشاذ ما استغربه جمهور المسلمين:

ويدل له قول معاذ - رضي الله عنه -: "اجْتَنِبُوا مِنْ كَلاَمِ الْحَكِيمِ كُلَّ مُتَشَابِهٍ، الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ قُلْتَ: مَا هَذَا؟ " [10].

أي: على وجْه الاستغراب؛ لأنَّه مخالف لغيره.

فلهذا لا يخفى القول الشاذ على جمهور المسلمين، وقد جعل الله للقول الحق نورًا يُعرَف به، ولم يجعل الله الحق ملتبسًا؛ بحيث يخفى على جمهور علماء المسلمين، بل من رحمته جعل له أماراتٍ وعلاماتٍ وأدلةً يعرفها أهلُ العلم، ويتفاضَلون في تحصيلها.

خامسًا: خطورة زلة العالِم:

زلَّة العالِم يضلُّ بها عَالَم، ولقد حذَّر الصحابةُ الكِرام منها؛ فقال زِيَاد بن حُدَيْر: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلتُ: لا، قال: يهدمه زلَّة العالِم، وجِدَال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المضلين" [11].

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ويْلٌ للأتباع من عثرات العالِم" [12].

ولهذا يشَبِّهُون زلَّة العالِم بانْكِسار السفينة، فيغرق بانكسارها خلْقٌ كثيرٌ.

فنُلاحظ أن السلَف لَم يجعلوا مِن زلات العلماء مسائل خلافيَّة، يُخَرِّجون عليها فُرُوعًا فقهية، ويستدلون بمجرد ثبوتِها عن العالِم، وإنما جعلُوها فتنة يستعيذ المؤمن مِن شَرِّها، ويتوَرَّع عن قَبُولِها؛ ليسلم له دينه وعبادته لربِّه.

ولخطورة زلَّة العالِم فقد ذكَرها أهلُ العلم في مؤلَّفاتهم، فمنهم:

• الحافظ ابن عبدالبر: حيث أفرد فصلاً في كتابه "الجامع في بيان العلم وفضله".

• والحافظ ابن القيم: في كتابه "إعلام الموقعين".

• والإمام الشاطبي: في كتابه "الموافَقات"، وغيرهم كثير.

وعلى هذا يتأتَّى سؤالٌ:

ما بال أهلِ العلم يُحذِّرون من زلة العالِم مع أنها مبنيَّة على اجتهادٍ لا يكون صاحبُه آثمًا؟

ووجه التحذير هو: الآثار المترَتِّبة على زلة العالِم، حيث يترتَّب عليها آثارٌ خطيرة منها:

1 - اتِّباع المقلِّدين لها، مع أنها في الأصل خارجة عن حُكْم الشرع.

2 - وجود مَن يُنافح عنها؛ نظرًا لمكانة قائلِها؛ مما يجعل المنافِح يُحاول تأصيلها وحشْد الأدلة لها؛ حتى تلتبسَ على مَن يُطالعها.

3 - قد يكثر أتباعها، فتنتقل المسألة عند البعض مِن حيِّز الشذوذ إلى مسألة مُعتبرة الخلاف، وهو أشد آثارها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير