يوميات شاب إنترنتّي
ـ[سمر الأرناؤوط]ــــــــ[10 Jul 2010, 07:06 م]ـ
مقطع من يوميات شاب إنترنتّي
استيقظتُ صباح اليوم وكأنَّ جبلا ثقيلا نام فوق صدري لأنني ذهبتُ إلى الفِراش بعد ثلاث عشرة ساعة متقطعة أمام الكمبيوتر تخللتها خمسُ مكالمات هاتفية على المحمول الجديد، لكنني اعتذرت عن ممارسة أيّ نشاطات مع أصدقائي، فأنا والشاشة الصغيرة أصبحنا توأمين، أفتقدها إنْ سرق منها وقتُ قضاءِ الحاجة عدة دقائق.
الإنترنت قَلَبَ حياتي سافلَها عاليها، وأصبحتُ أكثر شهرة من كِبار الكُتّاب، واستغنيتُ تمامًا عن عالَم الكُتُب رغم أنني لم أقرأ كُتيّباً بحجم الكفّ منذ سبع سنوات، ويعرفني الآن القاصي والداني في أركان الأرض الأربعة، والاسم الغريب الذي اخترته لنفسي اخترق المنتديات والمواقعَ، وينتظرني الكثيرُ من الأعضاء لمعرفة وجهة نظري في عشرات الموضوعات.
قطعًا لا أقرأها، خاصة إنْ كانت ممن يقال عنهم أنهم مثقفون، لكنني أتسلل بخفّة، وأقرأ العنوانَ، ثم أكتب: (جزاك الله خيرًا، فموضوعك رائع!)، ويردّ كاتبه أو ناقله: شكرًا لمرورك!
مرّات كثيرة تلك التي نقلتُ فيها مقالا كاملا، ووضعت اسمي بعد حذف اسم صاحبه، فالإنترنت جعل المِلكيّات الفكرية كالماء والكلأ والنار، نشترك جميعا في مِلكيتها ولو شجّ صاحبُها رأسَه في الحائط سبعين مرة.
الشبكة العنكبوتية جعلتني مساوياً لكِبار الكُتّاب، ولم أعد بحاجة للثقافة والعلوم والآداب، فكل أنواع المعرفة أعثر عليها في حواراتي التشاتية مع أصدقائي الأونلاينيين، فنحن نتبادل النِكات والألغاز وأغاني الفيدو كليب، ولدىَ أكثرنا مهام عظمى في تغيير العالَم برُمَّته، بل إنني أستطيع أنْ أطرد أي صحفي كبير أو كاتب شهير أو روائي عظيم بمجرد نشره أي مقال لا أفهمه!
الإنترنيت جعلني أحتقر الفلاسفة والمؤرخين والمفكرين وكِبارَ العلماء الماديين، ويمكنني أنْ أصارع أكبرَهم عِلمًا وأرّديه قتيلا أونلاين، فأنا أشكك في أي فكرة، ويكفي أن أكتب بأن هذا الكلام هراء ويتعارض مع تعاليم ديننا الحنيف، وهنا يسابق الأعضاء الريح ليضعوا جواهرهم الفكرية المأخوذة من فقهائنا الذين عاشوا في القرون الأولى، فكارل ماركس، الذي لا أعرف من هو، تسقط أفكاره من منتدانا كما تسقط أوراق الخريف، ويستطيع أي أميّ وجاهل في موقعنا أن يُدحض كتابات أرنولد تويني وزكي نجيب محمود وسارتر وهنريك إيبسين وجمال حمدان وسيجري إينست ووليم شكسبير وقاسم أمين و جان جاك روسّو!
لم أعد بحاجة إلى قواعد اللغة العربية، وقد غضبت من أحد المتثاقفين، وهو رجل أخرجت له تروس المطابع كُتبا كثيرة أشاد بها أمثاله من الأدباء والمفكرين، عندما حاول تصحيحَ تعليقاتي، وكتب كلاما سخيفا عن أهمية اللغة السليمة، وصحّح لي كلمات مثل منذو (منذ)، ولا كن (لكن)، ومصطنقع (مستنقع)،ونحنو (نحن) وأستاز (أستاذ)، تلميز (تلميذ) و سقافة (ثقافة)، وسمانية (ثمانية) و .. عشرات غيرها، وهنا انفجرت غضبًا، وشتمت له أبا الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي ومصطفى صادق الرافعي وعائشة عبد الرحمن وميّ زيادة، فأنا لست بحاجة إلى هؤلاء المتخلفين لأنني شاب إنترنتي أنقل أي مقال، وأذيّله باسمي، وسيتبارى العشرات للذود عني لأنهم أيضا أعداءُ ما تُسَمّىَ الثقافة، وخصومٌ مثلي للكتاب المطبوع.
الإنترنيت جعلني، باسمي المستعار، على قدم المساواة مع الذين دفنوا حيواتهم في البحث والدراسة والقواميس والموسوعات، ويكفي أن أقرأ السطور الثلاثة الأولى، والسطرين الأخيرين، وأيضا أكتب أنني لم أقرأ الموضوع لتفاهته، وسيبرز فرسان ومغاوير يدافعون عني، ويطلقون الرصاصَ على كل من يقترب مني.
مساء أول أمس طرق والدي باب غرفتي، ودخل بهدوء ثم سألني عن سبب قضاء ساعات طويلة دون طعام أمام الإنترنيت، فقلت له بأنني رئيس لجروب كبير يُغرق البريد الإلكتروني لآلاف من الناس بأحاديث نبوية شريفة، ومقالات منقولة تدحض أكاذيب الأديان الأخرى، وأكدت لأبي تفاؤلي بقرب تحقيق الخلافة الإسلامية التي ستمتد من كيب تاون، مرورا بنجامينا، ثم القدس المحتلة، ومنها إلى استانبول لتستقر في شمال النرويج وتأتينا الدنيا كلها صاغرة!
¥