[أجود الناس]
ـ[صلاح علي الزيات]ــــــــ[13 Aug 2010, 06:35 م]ـ
[أجود الناس]
رَدَّدَتْ أكتافُ الجبالِ عَجِيجَ ما أختلَطَ من أصواتِ قطعان البَهَم التي انحصرت بين شعابها، من ثُغَاء الشَّاءِ ويَعَارِ المَعْزِ ورُغَاءِ الإبل، وقد تكوَّرَتْ رؤوس الجبال بعمائم من الغُبارِ الذي ثارَ من تحت تلك الأظلافِ والحَوَافرِ والأخفاف .. أما هو فقد أَشْرَفَ على ذلك المشهد من فوق ثنيَّةٍ في تلك التلال، يتأمّل ما أفاءَ اللهُ به عليه من غنائمَ ساقَتْها عُتَاةُ (هَوَازِن) وأحابِيْشُها؛ لتضَعَهَا سائغةً في كفِّه صلى الله عليه وسلم يُعطي منها ويمنع.
وكان قد خَرَجَ مع النبيصل1 إلى تلك المشاهد بعض مُسْلِمَة الفتح، وبعض المستأمنين من أشراف أهل مكة ممن لم يُسلم بَعْدُ، وكان من بينهم صفوانُ بنُ أميّة بن خلف .. ، وصفوانُ صفوانُ! صاحب خطة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو علاوة على ذلك ابن الرجل الذي قتله النبيصل1 لشدَّةِ عداوته.
فانحدر صفوانُ من شَرَفٍ قريبٍ من رسول الله صل1 وقد أَبَدَّ تلك النَّعَمِ بَصَرَهُ، وجَعَلَ يتأمّل شِعْباً قد امتَلأ نَعَمَاً وشَاءً ورِعَاءً، وأدام إليه النّظر .. ولم يكنْ انْبِهَارُ صفوانَ بن أمية بذلك المشهد غائباً عن نباهَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كانت فِعَالُهُ أَنَمَّ على كَرَمِ نفسِهِ وسَخَائِها من الصُّبحِ على ما أشْرَقَ عليه، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَرْمُقُ صفوانَ ويَلْحَظُهُ ..
(أبا وَهْب) ناداه النبي صلى الله عليه وسلم مُكَنياً، ليقطع عليه سَوَابِحَ الفِكَرِ التي كان غارقاً فيها .. (يُعْجِبُك هذا)؟ قالها له النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتردّد صفوانُ كثيراً قبل أنْ يبادر مجيباً: نعم .. !، فردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم -وبأريحيَّة ما عرفَتْ للتكلُّف طريقاً، وما افْتَقَرَتْ إلى اسْتِخْذَاءٍ ولا تَمَلُّق؛ وبكلمتين اثنتين أمْلَكَتْهُ ثروةً سَدَّتْ ما بين جبلين- قال له: هو لك!!
كأني بِحَمَالِيق عَيْنَيْ صفوانَ وهي تدُورُ تعجُّباً .. أو إنْ شئتَ فَرَحَاً .. لتبُوحَ شَفَتَاهُ بحقيقةٍ طالما حاول مدافعتها عن كوامن نفسه فيقول: (والله ما طابت بهذا نفسُ أحدٍ إلا نفسُ نبيّ .. أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، لقد استلَّ الجودُ سَخَائِمَ الصدور ..
فتىً شبَّ في مهد المكارم لم يَقُلْ = نَعمْ أبداً إلا وتَتْبَعُها نِعَمْ
تلوحُ بُرُوقُ الجودِ في سُحْبِ كفِّهِ = فما استُسقيتْ إلا وتَنْسَكِبُ الدِيمْ
إن الحديث عن جود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثٌ عن رِيحٍ أُرسلتْ بالغيث فلا تَسَلْ عن عموم بركتها وشمول نفعها، ولقد كانت تلك الصفة ملازمةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزوم قَرَاحِ الماء للرِّيّ، في كل أحواله وأيامه، فكأنما قد جَذَبَ الكرمُ بِضَبْعَيه، فهو يَهشُّ للبذل ويخفُّ للمعروف، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير)، وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا)، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ما رأيت أجود ولا أمجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أما في رمضان فقد كان حاله في جوده وسخائه عجباً، فلا أطوَلَ منه يَداً بمعروفٍ، وذلك لما تصطَبِغُ به لحظاتُ شهر رمضان من معاني الجود والكرم الربّاني على عباده، ولما يُؤثِّرُهُ لقاءُ النبيصل1 بالملََك الكريم جبرائيل عليه السلام في كل ليلة، فلا غرو أن تنبسطَ كفُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسَخِيّ النوائل، حتى يقول واصفُهُ: (كان أَجْوَدَ ما يَكُونُ في شَهْرِ رَمَضَانَ، إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَام كان يَلْقَاهُ في كل سَنَةٍ في رَمَضَانَ حتى يَنْسَلِخَ، -وفي لفظ: في كل ليلة من رمضان- فَيَعْرِضُ عليه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فإذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ من الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)، وتقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان إذا كان قَرِيبَ عَهْدٍ بِجِبْرِيلَ عليه السَّلَام يُدَارِسُهُ كان أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ من الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)، وتتراوحُ يَدَيْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان بالمعروف حتى تُصيبَ بهاطِلِ غِيثها الأسيرَ في أُسَارِهِ؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح الهابّة)، هكذا: أعطى كل سائل .. ، وإخاله –صلى الله عليه وسلم- لو ملك الدنيا بأحمرها وأصفرها لفيَّحها في ساعة.
نبيٌّ كريمٌ، لربٍّ كريمٍ، يقابلُ كلَّ ليلة مَلَكاً كريماً، في شهرٍ كريمٍ، ويدارسُهُ قرآناً كريماً .. فأيُّ شيئٍ -من طارِفِ الكَرَمِ وتالِدِهِ- بقيَ لم تَشْتَمِل عليه هذِهِ الحال.
ولا -أُرى- قول (ابن هانئ) يصدُقُ في أحدٍ صِدْقَهُ في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول:
و ما الجودُ شيئاً كان قبلك سابقاً = بل الجودُ شيئٌ في زمانك حادث
فما أحوجنا إلى استجلاء تلك المعاني الرمضانية العظيمة؛ من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصياغة دنيانا بأنوارها وإشراقها، لتعود إلى الحياة نضرتها في فيء النبوة وظلالها.