تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أجْمع أهلُ العلم على أنه لا يجوز تتبُّع زلاَّت العلماء وتقليدها والعمل بها؛ احتجاجًا بأنها أقوال لعلماء الأمة، واعتمادًا على منْزلة قائليها، وتواتُر نكيرهم على مَن تَتَبَّع زلاَّت وشذوذات العلماء:

فقال سليمان التيمي: إنْ أخذْتَ برُخصة كل عالِم اجتمع فيك الشرّ كله.

وقال الإمام أحمد: لو أنَّ رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدِينة في السماع، وأهل مكة في المتْعة - كان فاسقًا.

وقال ابن المبارك: ولقد أخبَرَني المعتمر بن سليمان قال: "رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال: يا بُنَي لا تنشد الشعر، فقلتُ: يا أبتِ، كان الحسَن يُنشد الشعر، وكان ابن سيرين ينشد، فقال: أي بني، إنْ أخذتَ بِشَرِّ ما في الحسَن، وبِشَرِّ ما في ابن سيرين، اجتمع فيك الشرُّ كله".

وقال الذهبي: "مَن يَتَتَبَّع رُخَص المذاهِب، وزلاَّت المجتهدين، فقد رقَّ دِينه" [18].

فنُلاحظ أنَّ أهل العلم لَم يجعلوا شذوذات العلماء مسوغة للخلاف وجائز الاتِّباع، وإنما جعلوها من شَرِّ ما في ذلك العالِم مع حفْظهم لِحُقُوقه الأخرى.

ثامنًا: الشذوذ أمارة ضعف القول:

أهل العلم يجعلون الشذوذ بذاته علامةً على الضَّعْف، وأمارةً على التردُّد وعدم قبول القول، ومَن درس أقوالهم عرَف منْهجهم، فكثيرٌ من العلماء مَن يترَدَّد في مخالفة الأكثر، مع أن القول الآخر قال به طائفةٌ من أهل العلم في كلِّ عصر وزمن، فكيف إذا كان القول شاذًّا، يمُرُّ الجيل وتَتَتَابَع الأزمان، ويبقى القائلون به أفرادًا؟!

تاسعًا: التأكُّد مِنْ نسْبة الأقوال لقائليها:

ينبغي أن يُتأَنَّى في نسبة الأقوال الشاذة لقائليها، خاصَّة إن كان منَ العلماء المعتبرين المعروفين بكثْرة الطلَبة أو المصنّفات والتآليف، فكثيرٌ منَ الأقوال المنسوبة هي مِن تخريجات الأتْباع على أقوال الأئمة، وليس كل ما قال به الحنابلة هو قولٌ لأحمد - رحمه الله - وكذلك الأئمة الثلاثة المتبوعون، ولئن كان التفرُّد في الحديث مظنَّة التوَقُّف حتى يتبيّن الأمر، فينبغي أن يُعمل بمنهج المحدثين - على تفصيلات عندهم - في بقية علوم الشريعة؛ فالباب واحد.

وقد يكون الخللُ مِنْ ناسخ الكتاب، وقد يكون مِن مختصر العبارة، وقد يأتي الخلَل في اجتزائها دون مراعاة لأول الكلام وآخره، وأحيانًا لا بُدَّ مِن معرفة السياق؛ فقد لا يكون السياقُ في تقرير حكم المسألة، وإنما من باب ضرب المثال الذهني.

عاشرًا: أكثر ما يشكل في الأقوال الشاذة:

أكثر ما يشكل في الأقوال الشاذة أسماء القائلين بها، فيتعاظَم الإنسان اسم العالم فلان وفلان ممن لهم قدَم صدْق، وشُهرة واسعة، والمؤمن لا يتعلق إلا بالدليل، وأما الأسماء فتبقى في باب الأمارات والعلامات، يستأنس بها طالبُ العلم، ولا يحتجُّ بها، وكان مِن القواعد الشرعية المقررة أن: "أقوال العلماء يُستدلُّ لها ولا يُستدلُّ بها".

وقال الإمام القرطبي - وقد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ -: "فإن قيل: فقد أحل شُربه إبراهيم النخَعي، وأبو جعفر الطحاوي، وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه، قلْنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول مَن أحَل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخَعي، وهذه زلة من عالِم، وقد حُذِّرْنا مِن زلة العالِم، ولا حجَّة في قولِ أحَدٍ مع السُّنة" [19].

وقال رجل للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: إن ابن المبارك قال كذا، فقال الإمام أحمد: إن ابن المبارك لَم ينزل من السماء [20].

الحادي عشر: الموقف تجاه أقوال العلماء:

الناس تجاه أقوال العلماء على حالين:

• في حال إجماع العلماء على قول، يجب اتِّباع إجْماعهم.

• في حال اختلافهم، فالناس على صنفَيْن:

صنف له القدرة على معرفة الدليل: فيلزمه معرفة الدليل واتباعه والعمل به، فيختار من الأقوال أقربها موافقة للدليل الشرعي حسب استطاعته.

وصنف لا يستطيع ذلك: فيلزمه التقليد، وعليه في التقليد أن يقلد الأعلم والأتقى إن عرف ذلك، وإلا بقول أي عالم من علماء المسلمين تبرأ ذمته.

هذا كله في حال الأقوال الاجتهاديَّة سائغة الخِلاف، أما الشذوذات التي يُنكرها أهلُ العلم ويُحَذِّرون منها، فلا يجوز له التقليد - كما سبق - ولا تدخل في هذا الباب.

وبهذا أستطيع القول بأن كل ما اختلف فيه أهلُ العلم، فالواجب التأنِّي فيه، سواء على العلماء أو المقلِّدين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير