تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو بنيان قوم تهدم- أن يذهب به. عرفته حين درست اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة دمشق سنة 1974م. وكان في قسم اللغة العربية إذ ذاك أساتذة كبار علت منزلهم في علومهم. وكان الأستاذ عينهم وزينتهم وعلامة العربية في بلاد الشام، وهو من مفاخرها ومحاسنها، وكان جبلاً في العلم لا نظير له في علومه، وكان وحيد أوانه ونسيج وحده، وكان أشهر من نار على علم. تولى الأستاذ في السنة الأولى تدريسنا مادتي علم العروض والمكتبة العربية والأدب القديم. وكان يلتزم في حديثه العربية المبينة، وكان حريصاً على نشر العلم، متواضعاً تواضع العلماء الأئمة، قدوة لطلابه في علمه وخلقه وسلوكه. ظهر لنا خلال محاضراته علم غزير ورواية واسعة وذهن وقاد وحافظة واعية. ورأى غير واحد منا أن الأستاذ من أولئك الأئمة الأثبات الأعلام المتقدمين في المائة الرابعة أو دونها تأخّر به زمانه فعاش بيننا، وعلّمنا ما لم يعلّمنا أحد. ودرّسنا في السنة الثانية نصوصاً من كتاب الكامل لأبي العباس المبرد. ولم يكن في محاضراته فيه دون صاحبه المبرد علماً باللغة والعربية والأخبار وغيرها، بل إنه استدرك عليه في مواضع من كتابه. ولم تكن مادة النصوص عنده غاية في ذاتها بل كانت وسيلة إلى بيان أصول النظر في كلام المتقدمين وأمهات مصادر التراث العربي الإسلامي. ثم لّما تولى تدريسنا مادة علوم اللغة العربية في السنة الثالثة في كتاب مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري عرفنا أنه فارس هذا الميدان غير مدافع. وقد شرح مسائل من كتاب المغني شرحاً لم يقاربه أحد ممن شرحه ممن نعرف. وما كانت مادة المغني وحدها هي ما عني به الأستاذ، بل كان أغنى ببيان منهج فهم كلام المتقدمين والقراءة الناقدة البصيرة بكلامهم، وعدم الاطمئنان إلى النظرة العجلى فيه ولا إلى الرأي الذي يبدو لك من قراءته أول مرة. ووجد المجال أرحب ليقول شيئاً مما في صدره من العلوم يوم تولى تدريسنا الموضوع اللغوي من موضوعات دبلوم الدراسات العليا اللغوية، وهو من كبار أعلام الدراسات العربية الإسلامية اللغوية والأدبية. فشرح لنا أبواباً من الخصائص لابن جني، وأملى علينا أشياء مما انتهى إليه ي القراءات القرآنية. وبسط خلال ذلك أصولاً من أصول علم العربية وعلم القراءات. وهو كلّ حين على ذكر من كلام الأئمة المتقدمين في مسألة مسألة، يملي كلامهم بلفظهم أو يكاد. وبسط لنا أصول تحقيق نصوص التراث العربي الإسلامي، وهو في هذا الباب لا نظير له في علمه وخلقه ومنهجه، كان غاية فيه. كانت الجامعة مكاناً تتلقى فيه المحاضرات المقررة، ولم يكن ما يتلقاه الطالب فيها ليكفي طائفة عطشى إلى العلم آنست في نفسها القدرة على الاستزادة منه. وكان بيت الأستاذ محلاّ ً للعلم ومثابة لطلابه. فلما فرغنا من الدبلوم انتقلت الجامعة إلى بيته، فحيث يكون تكون. وكنت وبعض زملائي وكثيرون ممن عرفت نختلف إلى الأستاذ في بيته، كلّ ٌ يحمل عنه ما كان مهيئاً لحمله من علمه وخلقه العلمي الأصيل وأمانته ودقته. واختار بعضنا بتوجيه منه رسالة الماجستير والدكتوراه. كان يوجهنا ويرعانا ويشجعنا ويبذل علمه ومكتبته ووقته في سبيل طلاب يرى أن لهم عليه حقّاً لأنهم طلابه، ولأنه يحب الخير للناس ويجري بين يديه. لازمته أي ملازمة من سنة 1979 إلى يوم اختاره الله لجواره. عرفته أستاذاً فذّاً وأخاً ناصحاً وأباً عطوفاً وصديقاً كريماً. وعرفت أي عالم كان، كان من أوعية العلم، كان كنيفاً ملىء علماً، وكان إذا سألته فجرت به ثبج بحر. إليه انتهى علم العربية في عصرنا، ونظر بذهنه نظر مؤثلي هذا العلم وناقشهم في بعض جوانبه، ورأى في بعضه غير ما رأوا. وفي المشتغلين بعلوم العربية في عصرنا بلا ريب غير واحد ممن برعوا فيها وحفظوا كثيراً من مسائلها ومذاهب المتقدمين والمتأخرين فيها وعرفوا حل ما اعتاص منها، لكنك لا تجد فيهم مثل الأستاذ ممن أداه علمه بالجزئيات إلى تصور شامل للغة وقوانينها الوضعية والعقلية. فقد أداه فكره في الكتاب- أعني كتاب فهماً دقيقاً- وهو أقصى ما يبلغه المتبصر بكلامه- بل إلى الوقوف على حكمة العرب في كلامها وعلى أغراض الخليل فيما نقله وفسره من كلام العرب، وفيه ما خفي غرض الخليل فيه حتى على صاحبه سيبويه، وفي الكتاب مواضع شمست حتى على أبي عليّ. كان الأستاذ عالماً

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير