تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بمقاييس العربية بصيراً بها محققاً مدققاً لو رآه الخليل لسرّ به وقال له: مرحباً بزائر لا يمل. ولا يزال في الناس علم ما بقي فيهم مثل الأستاذ. برع في علم العربية براعة، وحذق علم القراءات حذقاً، فهو وهذان العلمان سواء. وله فيهما مذاهب ونظرات لا تجدها في كتاب. ووقف في علم القراءات على أصول هذا العلم عند أئمته المتقدمين، وقد خفي أكثرها على من بعدهم. ولو كان لأحد أن يؤخذ بقوله كله في علم ولا سيما العربية والقراءات. ولو أراد الأستاذ نفسه أن يضع كتاباً يفرغ فيه ما في صدره من العلم لجاء الكتاب دون ما قدر لسعة علمه بفنون من العلم وبعد غوره فيها ولتشعب مسالك القول فيها وتفرق مسائلها وانتشارها. في بيته جرت مجالس العلم كل يوم، وبذل لمعتفيه بذل من لا يرجو منهم جزاء. عرفت عنده كثيراً من الباحثين من أصدقائه وزملائه ومن قدماء تلامذته وأصحابه، طلبوا عنده الفائدة فأطلبهم، وكثير غيرهم ممن لم ألق كتبوا إليه من شتى البلدان العربية فيما علموا أنه مفيدهم فيما استبهم منه وأشكل واستغلق وأعضل، وكانت الكتب والرسائل تأتيه من كل مكان. وعرفت في بيته كثيراً من المختلفة إليه من طلاب العلم، وهم جم غفير من مواضع شتى في سورية وغيرها من البلاد العربية والإسلامية. فطائفة منهم أشكلت عليها مواضع في نصوص تحققها، وفئة احتاجت إلى مخطوطات أو كتب نادرة في مكتبته، وجماعة تسأله اختيار موضوع رسالة جامعية، وثلة لم تتهد إلى تصور مرضي في دراسة علمية، وطوائف أخرى تستفتيه في مسائل من علم اللغة والعربية والأدب والقراءات والتفسير والحديث وغيرها. قصدوه فأكرمهم، وسألوه فأجابهم، وبذل لهم علمه ومكتبته ووقته. وغير واحد من تلامذته تولّى مناصب علمية في الجامعات وغيرها من مراكز العلم في سورية وغيرها من البلدان العربية. وعرفت فيما عرفت أنه كان منكوباً في غير قليل ممن أحسن إليهم، ما فعل لهم إلا الخير، وضنوا عليه بالوفاء، بل إن فيهم من أساء إليه وتنكر له، ومنهم من أصاب به اليوم علاج ذات نفسه. عرفت منهم من عرفت، وحدثني بحديث كثير. كان وفيّاً يحسن الظن بالناس فيخلفه ظنه في كثير {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} [سورة فصلت: 46]. وأقامت طائفة على الوفاء له، تلقوا عنه، وكسبوا بعلمه ومعرفته ما كسبوا. وما زال الأستاذ ينبوع علم عدّ، ينشر العلم، وزكاة العلم نشره. فمنه ما وعته صدور الخاصة من أصحابه وتلامذته، ومنه ما بثه فيما نشره وفيما لم ينشره من النوص وفيما كتبه من مقالات، ومنه ما قيده على الكتب التي حوتها مكتبته، وذهب بموته علم كثير. والموت حق على كل العباد فما حيّ بباق ويبقى الواحد الأحد و "إذا مات ابن آدم انقطع علمه إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ". فعمل الأستاذ باق إلى يوم القيامة، لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. رحمك الله يا أستاذ أبا عبد الله رحمة واسعة وجزاك الجزاء الأوفى {يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم} [سورة الشعراء: 89] ولا زال لسانك رطباً بذكر الله وتلاوة الزهراوين كلّ صباح. سلامٌ عليك {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم ٍ} [سورة يس: 58]. كلمة آل الفقيد الأستاذ نزار النفاخ بسم الله الرحمن الرحيم أيها السادة الكرام لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أقف هذا الموقف الصعب والمهيب أمام علماء أجلاء، وأصدقاء، وزملاء لأتكلم عن شقيقي أحمد راتب رحمه الله في الذكرى الأربعين لرحيله في حدود رؤيتي له كشقيق كان إلى جانبه في كافة الأوقات، ولعل السمة المميزة له هو أنه لم يكن يأبه لعرض الدنيا ومباهجها، ولم يقم لها وزناً، شأنه في ذلك شأن السلف الصالح من علماء أمتنا، وانسحبت هذه الصفة على سلوكه وتصرفاته، فكان يتعامل مع الآخرين ضمن هذا الاعتبار، وهذا ما دعاه إلى التفاني في بذل العلم لطالبيه على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، لأنه كان على يقين من أنه يؤدي بذلك عبادة، فالعلم عنده عبادة، ولم يكن يسخط على أحد إلا بمقدار انتهاكه لحرمة هذه العبادة في أداء ما لم يحسن أداءه. أما داره فكانت دار علم يؤمها العلماء، وطالبوا العلم من شتى أصقاع العالم، ومن كل حدب وصوب على اختلاف اختصاصاتهم وهذا ما شاهدته على مدى ثلاثين عاماً، وكثيراً ما كنت انتظر عدة أيام لأظفر بفرصة أخلو بها إليه للتحدث في أمر من الأمور العائلية التي تخصه مباشرة، وهذا لم يكن ليتيسر لي في حضور رواد علمه، ولا أذكر أنني استطعت حمله على إغلاق بابه يوماً واحداً في أمرٍّ أيام مرضه وأقساها، وكنت ألحظ أنه كان يستعيد قوته ونشاطه عندما كان يقوم بشرح مسألة علمية لقاصديه، إذ يجدون عنده حلاًّ لكل معضلة، وشرحاً مفصلاً لكل مشكلة، إضافة إلى توجيهاته العلمية سواءٌ أكانت باختيار مواضيع بحوثهم، أو وضع خطة منهجية لها، أو تقويمها، أو الإشارة إلى مصادر دراستها، لقد كان يركز على أصول البحث العلمي، وطرائق استخدام المصادر والصلات الأساسية بين مختلف أنواع العلوم الأساسية، فضلاً عن التكوين الفكري والعقلي، وأصول المحاكمة عند الإنسان، أما مرحلة الحفظ والاطلاع فستكون المرحلة اللاحقة والمتممة للوصول إلى بداية المعرفة العلمية، وفوق ذلك فإنه لم يكن ليضن بعلمه ومكتبته على كل طالب علم ولو لم يكن أهلاً لذلك لقد كان راتب خبيراً بالرجال ومبصراً لمواقفهم، وكان وفياً لأساتذته وأصدقائه. إنني لم أقصد الحديث عن علمه، فلست أهلاً للحديث في هذا الجانب الذي أفاض فيه زملاؤه، وأصدقاؤه وطلابه في كلماتهم عنه، فهم أقدر مني بمعرفة مقدرته ومكانته العلمية، ولكنني صورت واقعاً عايشته مدة طويلة، فالعلم ملأ عليه حياته دون أي غرض سوى لثواب وقناعته في أنه يؤدي رسالة العلم كما يأمره بذلك دينه وخلقه، ولولا ما آل إليه من إرثه من أبيه لغادر الدنيا كما جاء إليها. وأخيراً لا يسعني والألم يعتصر قلبي ويمزقه إلا أن أبدي جزيل شكري وامتناني للسادة المشاركين في هذه المناسبة، وهذا ما خفف من المصاب الذي ألم بنا، فلئن مضى راتب إلى لقاء ربه، فإن لنا في صفوة أصدقائه ومحبيه خير عزاء وشكراً لكم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير