وقد استوقفتني هذه المسألة وأنا أدرس كتاب المفردات للراغب الأصفهاني، وتبين لي أنه لا ينبغي التوسع في إطلاق وصف الغرابة على ألفاظ القرآن الكريم.
وإذا كانت بعض الألفاظ يمكن وصفها بالغرابة "بالنسبة إلى المستمع" كما نقل أخونا الدكتور أبو مجاهد العبيدي عن الإمام ابن تيمية، فإنه يصعب إدخال ألفاظ مثل السمع والبصر والأرض والنور وغيرها من الألفاظ التي يفهمها كل الناس، (انظر مثلا التبيان في تفسير غريب القرآن لابن الهائم). حيث ذكر هذه الألفاظ وغيرها، وتجد نحو ذلك في عدد من كتب الغريب.
وقد دفعني اهتمام الراغب بالمفردة القرآنية في حد ذاتها باعتبارها أحد مداخل فهم القرآن إلى إعادة النظر في هذه المسألة.
وقد يكون اصطلاح "الألفاظ المفردة" في القرآن الكريم - كما استعمله الراغب وبنى عليه كتابه- بديلا عن اصطلاح "غريب القرآن"، وذلك لكونه أعم وأدق وأصدق على واقع الكتب المؤلفة في هذا المجال، وكونه أيضا أبعد عن الإشكال، والله تعالى أعلم.
وهذا طرف من مقال منشور بهذا الملتقى له علاقة بالموضوع من جهة الخطأ الشائع في اعتبار مفردات القرآن للراغب الأصفهاني كتابا في غريب القرآن.
هل المفردات كتاب في الغريب؟
إن ما سبق من الكلام يحملنا على التوقف في اعتبار هذا الكتاب من كتب الغريب. وأعتقد أن هذه المسألة في حاجة إلى تحرير ومراجعة، فقد دأب كثير من العلماء الباحثين على عد المفردات في كتب غريب القرآن. ومن هؤلاء الإمام الزركشي (1)، والإمام السيوطي (2)، ومن المحدثين الدكتور محمود نحلة (3) والدكتور فتحي الدابولي (4) وغيرهم.
وأغرب من ذلك أن أحد المحققين للمفردات قال في المقدمة: "إن كتاب المفردات يعتبر موسوعة علمية صغيرة، فقد حوى اللغة والنحو والصرف والتفسير والقراءات والفقه والمنطق والحكمة والأدب والنوادر و أصول الفقه والتوحيد، فأجدر به أن يحتل الصدراة بين الكتب المؤلفة في غريب القرآن ومعانيه" (5).
مفهوم الغريب:
يلخص الدكتور محمود نحلة مفهوم الغريب فيقول: "الغريب في اللغة ما خالف الشائع المألوف وتباعد عنه. وفي اصطلاح البلاغين هو الوحشي أو الحوشي الذي لا يظهر معناه إلا بالتنقير عنه في كتب اللغة المبسوطة. ثم ينقل عن ابن الأثير أن الوحشي قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح، ثم يقسم الألفاظ إلى ثلاثة أقسام: قسمان حسنان، وقسم قبيح، "فالقسمان الحسنان أحدهما ما تداول استعماله الأول والآخر من الزمن القديم إلى زماننا هذا ولا يطلق عليه وحشي، والآخر ما تداول استعماله الأول دون الآخر ويختلف في استعماله بالنسبة إلى الزمن وأهله. وهذا هو الذي يعاب استعماله عند العرب، لأنه لم يكن عندهم وحشيا وهو عندنا وحشي، وقد تضمن القرآن الكريم منه كلمات معدودة، وهي التي يطلق عليها غريب القرآن ... وأما القبيح من الألفاظ الذي يعاب استعماله فلا يسمى وحشيا فقط، بل يسمى الوحشي الغليظ" (6).
وينقل عن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله تعالى – قوله: "وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد أنها منكرة أو نافرة أو شاذة كما رأيت في باب اللغةـ فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ها هنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل بحيث لا يتساوى في العلم بها سائر الناس" (7).
وقد لا نكون في حاجة إلى بسط القول – بأكثر مما ذكر – في تعريف الغريب وبيان مفهومه حتى نزن به كتاب المفردات، ومهما يكن من اختلاف في ذلك فإن أحدا – فيما نعلم، والله أعلم – لم يقل إن ألفاظ القرآن كلها غريبة، علما بأن الراغب قد عني بها جميعا، ولم يستثن منها شيئا.
والحق أن كتاب "المفردات" أشمل وأوسع وأعمق من مجال الغريب بمعناه الشائع، وهذا بحسب واقع الكتاب الناطق، وبحسب قصد كاتبه الذي نص عليه نصا.
- فمن ذلك أن الراغب لم يشر في مقدمة "المفردات" إلى اسم له محدد وواضح، وإنما قال – بعد أن نبه على مركزية الألفاظ المفردة في الخطاب القرآني، ومركزيتها في بنية العلوم عموما -: " وقد استخرت الله تعالى في إملاء كتاب مستوفى منه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي ... والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب" (8).
¥